مثَّل انعقاد منتدى كرانس مونتانا او ما يسمى جنوب-جنوب في مدينة الداخلة الصحراوية في المغرب تظاهرة دولية مهمة للغاية عكست تطور الأوضاع في المغرب الشقيق والإنجازات التي حققها خلال السنوات الماضية على صعيد التنمية البشرية المستدامة، فقد حضر الى هذا المنتدى حوالي ألفي شخص يمثلون نحو 150 دولة ومنظمة، منها 44 دولة أفريقية و43 دولة آسيوية بما فيها الصين وعدد كبير من الوفود الأوروبية والولايات المتحدة وأستراليا ومن دول أميركا اللاتينية ومنظمات دولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، بالإضافة الى وكالات الأنباء والصحافة العالمية.
ولا شك ان المؤتمر حمل رسالتين: سياسية، وتنموية. أما السياسية فتمثلت باختيار المكان مدينة الداخلة الصحراوية للمرة الثالثة، وهي المدينة التي شهدت تطورا ملحوظا خلال السنوات الماضية بحسب شهادات من زاروها قبل هذا العام. ويريد المغرب التاكيد بشكل قاطع على ان الصحراء الغربية ومدينة الداخلة في أقصى الجنوب هي مغربية وغير خاضعة للنقاش من ناحيته، والوجود الدولي الكثيف هو عبارة عن تكريس لهذا الواقع. والشق الثاني من الرسالة السياسية هو تعزيز دور المغرب في افريقيا خاصة بعد عودته الى الاتحاد الأفريقي باعتباره لاعبا إقليمياً بارزاً في الحلبة الأفريقية ومنها الى الحلبة الدولية. ويمكن القول ان الرسالة السياسية التي أراد إيصالها قد وصلت بنجاح المنتدى وبكلمة العاهل المغربي جلالة الملك محمد السادس.
ومن زار المغرب قبل عشر سنوات أو اقل قليلاً سيكتشف الفرق الكبير في التطورات الحاصلة داخل هذا البلد، فقبل إطلاق «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية»، التي أعلنها الملك محمد السادس في الثامن عشر من شهر أيار من العام 2005، مر المغرب بمرحلة من الاستقرار التي في إطارها تم تعزيز الأمن ودولة القانون، وتوسيع فضاء الحريات والنهوض بحقوق المرأة والطفولة والفئات المهمشة والضعيفة، وعلى أرضية هذا التطور تم إطلاق المبادرة التنموية.
لقد اشتملت «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية» على تنفيذ 20800 مشروع يستهدف اكثر من 12 مليون مواطن وبميزانية اجمالية 50 مليار درهم. والمشاريع في مجالات البنية التحتية والخدمات الاجتماعية الأساسية من تعليم وصحة وماء وكهرباء وطرق وغيرها لدى الجماعات المهمشة والمحتاجة. والهدف هو تحقيق بنية مهمة من اجل تنمية بشرية شاملة ومستدامة.
وشملت المشاريع مناطق الرباط والدار البيضاء وطنجة وسلا والمضيق والنواصر والمضيق الفنيدق وتيزنيت وفاس ومراكش واشتوكة ايت باها وأزيلال وتاونات ومكناس وخريبكة سيدي أفندي والرشيدية وبركان وتازة والعرائش وآسا الزاك وزاكورة وسيدي أفندي وفاس بولمان وخريبكة والناظور وبوجدور والفحص وتطوان ووزان وصفرو ووادي الذهب وسوس ماسة درعة. وحظيت أقاليم الجنوب بحوالي 13 بالمئة من العدد الاجمالي للمشاريع موزعة على جهات الداخلة - وادي الذهب والعيون- الساقية الحمراء وجهة كلميم- واد نُون.
من الواضح ان عملية التنمية وإطلاق المشاريع في إطار «المبادرة الوطنية» شملت كل أقاليم المغرب التي اتينا على ذكرها فقط للتدليل على مدى حجم هذه العملية التي عملت نهضة واسعة في البلاد الى درجة ان المنظمات الدولية مثل (الاسكوا) ( اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا) وعلى لسان نائب أمنيتها التنفيذية عبدالله الدردري اعترفت بأن « المبادرة الوطنية» في المغرب «تعطي نتائج ملموسة» في مجال محاربة الفقر والبطالة وتحقيق التنمية القروية. وتم إدراج تجربة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في تقارير الاسكوا نظراً لما حققته من نتائج إيجابية للغاية، تستفيد منها دول عديدة في المشرق والمغرب.
واستناداً الى دراسة أعدها البنك الدولي نشرت في تموز 2015، صنف المغرب ثالثاً ضمن البلدان الخمسة الأولى التي اعتمدت أفضل البرامج ومبادرات العمل المفيدة في العالم. وحصل المغرب على شهادات مهمة من مؤسسات دولية اخرى وعبرت دول أفريقية عن رغبتها في الاستفادة من التجربة المغربية ومنها الغابون التي بدأت فعلياً في السير على خطى المغرب، وكانت المبادرة الوطنية المغربية حاضرة في الملتقى الدولي في بولونيا في 15 حزيران من العام 2015، وفي القمة الأفريقية السابعة للحكومات المحلية في افريستي في جنوب افريقيا في 30 نوفمبر عام 2015، وفي قمة المناخ التي عقدت في مراكش في شهر نوفمبر من العام المضي وكانت التجربة المغربية في موضوع الطاقة البديلة محط اهتمام.
التجربة المغربية في موضوع التنمية البشرية رائدة بامتياز تستحق ان تحتذى في العالم العربي وأيضاً لدينا في فلسطين، حتى لو كنّا لا نملك من الإمكانيات ما تملك اي دولة طبيعية، ولكن الدعم الذي حصلنا عليه يمكن ان يشكل أرضية لفعل حقيقي على هذا الصعيد بالرغم من معيقات الاحتلال، فكل شيء يبدأ بالإرادة والتخطيط الجيد والاستخدام الأمثل للطاقات والإمكانات المتوفرة.