قديما لما لم تكن هناك فضائيات ولا «واتس أب» ولا «تويتر» ولا ما يحزنون، كان هناك نظام الزاجل اللاسلكي، الذي يخترق الأسلاك الشائكة والأنظمة المغناطيسية، والصعاليك النشامى، الذين يكتبون رسائلهم في «وادي الجن» بلا أصابع ولا كيبورد، وسيوف تجز الشوارب والعمائم، دون أن تريق قطرة دم واحدة، وكان هناك شرف وعار ونساء للذبح، ورجال تموت وتحيا صونا لعرض الحواجب والشنبات وكل ما يتعلق بكرامة الوجه قبل حَفّه أو حلقه… فماذا عن عصرنا هذا الذي وصل فيه القمر الفضائي إلى بيوتنا ولم تزل عقولنا وهاماتنا معقودة بمناديل العفة في زمن أصبح فيه الدم العربي أرخص من الشرف الذي يراق لأجله!
مشهد مخل بالحياء
على «القاهرة والناس» تقدم الإعلامية بسمة وهبة برنامجها «حتكلم»، وهو برنامج يعرض عددا من القضايا الاجتماعية متجاوزا التابوهات والمسكوت عنه، مراعيا للقيم العامة والحدود الشرعية والقانونية، بشجاعة وحذر، كأن بين الفضيحة وكشف الحقيقة شعرة رفيعة، لا يكاد البرنامج يشدها حتى يعود ليمطها، لا أدري وجلا، أم تحايلا، أم مسايرة!
المشهد: أب يحضر إلى استديو البرنامج محاطا بشيخ ورجلي قانون وأمن، أمام الكاميرا على مرأى العالم، مهددا متوعدا ابنته التي فرت مع رجل تزوجته شرعا، لكي لا تتورط في زواج قسري من ابن عمها، مطالبا بعودتها لقتلها مرة ومرة للخروج من بيته بإرادته كي يحفظ كرامة عِمّته أمام قبيلته، في الوقت ذاته، الذي تستجيب فيه ابنته لمذيعة البرنامج والشيخ بأن «تحب على راس» أبيها هي وزوجها، الذي تعهد باتباع الأصول والتقاليد متكفلا بعرض زوجته على طبيب شرعي يثبت عذريتها، لأنه لم يلمسها بعد عقد القران، وهنا مكمن الكارثة!
تصر الفتاة على الفحص، ويوافق الشيخ، والمذيعة، والأب، ورجلا القانون والأمن والمشاهدون والقبائل والجيوش والشعوب العربية، والأطفال في الشوارع والجنود على الحدود وغيرهم من سكان هذا الكوكب أو حتى الكواكب السرية، فماذا بعد هكذا طامة؟!
تريد الصراحة أو ابنة عمها أيها المشاهد؟ أنصحك بابنة العم، فالشيخ، الذي استبسل خلال البرنامج في إثبات الأدلة والنصوص المقدسة للأب على براءة ابنته وعدم مخالفتها للشرع، كان أول الراضخين للوعي الأبوي البطريركي، حيث نسي ربه ودلائله واستبساله منهالا على يدي الأب يقبلهما، وهو يقسم بألا تقرب الفتاة زوجها قبل أن يأذن لها أبوها، فهل تنتف حواجبك أيها المشاهد أم تلطم، أم تدب الصوت في واد غير ذي بشر، أم تسأل الشيخ: تراه كان يفعل ما فعله الأب لو كان في مكانه؟ ويلاه ْ!
ولكن، ماذا عن المذيعة! لقد نهضت من مكانها وقبلت رأسه وهي تتعهد أيضا بصون بياض عِمّته مقابل ألا يهدر حياة ابنته بطلقة «شرف»! ليس هذا فقط، بل وجهت نداء للفتيات بعدم «الانجراف وراء وعود الزواج والتفريط في الشرف» تحت تأثير بطلة الحلقة، يا دي المصيبة! وكمان ويلاه!
أحزمة العفة والعيب
صلوات تذبح، ومساجد وكنائس تدنس، وأوطان تضيع، وأمهات يقددن صدورهن في العراء حزنا على قتلاهن، ولا تتحرك شنبات هؤلاء أو تغلي عروقهم أو تثير غضبات السماء نخواتهم، وقد أزيدك من الشعر بيتا أيها العربي، فكما تعلم نحن أمة تستر رؤوسها أمام الخلائق وتكشف عن أقدامها في الغرف الحمراء، ولا يخلو الأمر من فاسقين يمارسون الرذيلة والفحشاء في بيوت الآخرين، ويريقون دم محارمهم صونا لحرمة بيوتهم، فأين العدالة؟ أين هي الشريعة؟ ومن نحاسب في هذا المشهد المخل بحياء الرجال!
ثم من الذي يدنس الشرف في هذا المشهد ويفضح المستور: الفتاة أم أبوها؟ هل تلوم الأب؟ أم المجتمع؟ أم الزوج؟ أم النساء؟ أم الإعلام؟ أم الشيخ الذي انساق وراء ما كان لتوه يحرمه!! غير أن السؤال الأهم هنا: هل يُكتَسب الشرف أم يورث؟ هل هو تركة أم عادة؟ وهل هو مهماز للفضيلة أم ركوبة للكبرياء؟ مش عيب!
حين ترتكب جريمة الزنا «وليس الزواج» في الإسلام تطبق العقوبة ذاتها على الرجل والمرأة، بينما يصدر القانون حكمه ويوقف تنفيذ عقوبته على الرجل في جرائم الشرف، فهل نحن أمة إسلامية حقا؟ أم أننا نكذب على ربنا؟ قد لا يتبقى من كل هذا سوى تحدٍ صريح للمساواة وللتناقض في آن، بإحدى الجريمتين: العقوبة أو الخطيئة، فهل تجرؤون؟
نصر الله وخلف في خندق المقاومة
سارعت القنوات الفضائية لتداول خبر استقالة الأمينة التنفيذية لمنظمة الإسكوا «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا» ريما خلف، والتي جاءت بعد أن رفض الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تقرير «الإسكوا» عن الانتهاكات العنصرية وجرائم التمييز العرقي لدولة الاحتلال في فلسطين، وعلى إثرها عقد مؤتمرين صحافيين الأول لخلف والثاني للمتحدثين الإعلاميين في الأمم المتحدة، لينكشف الستار على مشهدين:
الأول: تفاصيل البيان الدقيقة، التي فضحت زيف المعايير الإنسانية والمهنية في الأمم المتحدة، وشكلت تحديا حقيقيا لها على مرأى العالم، ولعنجهية إسرائيل، وممارساتها الظالمة على الصعيدين السياسي والإنساني، والمفارقة الحقيقية بدت في الدوي الأكبر ليس للاستقالة، إنما للجريمة، بحيث عزز هذا الدوي الحق الفلسطيني وأدان الصمتين العربي والعالمي أمام أبسط الحقوق البديهية، التي قامت عليها هذه المنظمات: احترام المساواة بين البشر.
الثاني: المجرم لا يحس بالخزي من جريمته، ولكن من يتستر عليه ينفضح أكثر منه، وهذه هي الضربة القاضية، التي مكنت خلف في مؤتمرها الصحافي من تلاوة بيان الاستقالة بشجاعة وثبات وثقة، بينما بدا الخزي على وجه متحدث الأمم في مؤتمره الصحافي، الذي أنكر فيه رفض التقرير بسبب الضغوط الإسرائيلية أو محتوى التقرير إنما اتهم رئيسة المنظمة بنشر تقريرها باسم الأمم المتحدة، دون مشورة رئيسها، وهو ما لا يقنعك حسب ما ورد في تقرير الـعربية، بل يثبت جـريمة التـستر والإصـرار عليـها.
خطاب نصر الله في يوم المرأة
«سُكتُمْ بُكتُمْ»، هي ردة الفعل الرسمية في معظم العالم العربي، أما السيد حسن نصر الله ففي خطابه يوم المرأة العالمي وذكرى مولد السيدة فاطمة الزهراء، أعرب عن افتخاره بشجاعة المرأة العربية مستحضرا نموذج ريما خلف، التي لم ترضخ لإغراءات المناصب أو مصادر الأرزاق، منحازة إلى المقاومة كرسالة مقدسة ترفع رايتها المرأة، كما الرجل تماما، في زمن يتفنن في هزيمة الإنسان، في ضميره وحقه وعروبته، كأنني بالشيخ يجدد العهد للعروبة، ويؤكد على انتمائه إليها، مخاطبا الجامعة العربية والهيئات الرسمية في العالم العربي بدعم المواقف البطولية للمرأة العربية، وشهداء القضية الفلسطينية، مكرسا اهتمامه في جل همه وهمته: المقاومة التي بمقدورها أن تسير خلف امرأة تهز عرش الآلهة، وتخرج من مخدعها لتقتحم المعركة بزهرة النار المقدسة دون أن تشهر قمرها السري أو تلطخه بدم الشرف!
حسنا إذن، هذا عصر البطولة النسائية، منذ لينا الجربوني وشيرين العيساوي وورود القاسم وأماني موسى عودة وأحلام التميمي، وآمنة خندقجي تقرأ شعر أخيها من وراء القضبان، وهو يعترف بواقعيته لينال دولة خيالية، وصولا إلى فدوى البرغوثي وليس انتهاء بريما خلف… فيا أيها العربي، الذي لم يتعرف بعد إلى مكمن الشرف، هنا فلسطين: أول النساء وآخرهن، فطوبى للنساء، ولم أزل أحدثكم بكامل ذكورتي… فهل أكتفي؟!
عن القدس العربي