نعم؛ فتح غزة كانت حاضرة وبقوة
بعد أن أنهينا صلاة العصر بمسجد الكتيبة وتوجهنا لخيمة العزاء المقامة في الساحة الخضراء.. نظرت، فإذا بمجموعة قادمة وبشكل منظم كطابور عسكري تجاوز عدد أفراده من الشباب الخمسمائة، فاعتقدت للوهلة الأولى أنها مجموعة حمساوية قادمة من أحد مناطق القطاع.
وعندما اقترب بنا الصف الطويل إلى حيث تتلقى قيادات الحركة التعازي، شاهدت وجوه مألوفة لدي من قيادات وكوادر في حركة فتح (الجناح الإصلاحي)، وتتقدمهم يافطة كبيرة فيها كلمات تحمل معاني التآخي والمواساة ومشاطرة العزاء، وفي أعلاها صورة الشهيد ياسر عرفات والقياديين في الحركة؛ أبو على شاهين (رحمه الله) والنائب محمد دحلان.
حقيقة، كان مشهد الشباب مهيباً وهو يتقدم باتجاه خيمة العزاء، ولقد شكرت بعض قياداتهم عندما جمعتنا الخيمة، على هذا الحرص الأخوي الكريم بالحضور، وإظهار المشاركة المتميزة وبهذا العدد الكبير، الأمر الذي يعني أننا والحمد لله نتعافى يوماً بعد يوم من جراحات الأمس، ونقترب للحظة التي تجمعنا، والتي نُغلِّب فيها المصلحة الوطنية فوق أي خلافات وخصومات سياسية.
تبادلنا داخل الخيمة مع بعض قيادات هذا التيار الكثير من الكلمات الطيبة حول ما يتوجب على كل منا عمله، من أجل أن نبني هذا الوطن، ونعزز من صمود أهلنا في قطاع غزة.. كلمات كانت نبراتها فيما يبدو لي صادقة، وهي تريد من خلالها إيصال رسائل إلى قيادة حركة حماس أننا قاب قوسين أو أدنى من احتضان رؤية نعمل بموجبها معاً، بهدف الأخذ بيد كل من أتعبتهم حالة الحصار، وأنهكت قواهم تداعيات الانقسام.
نعم؛ نحن نعمل وإيَّاهم معاً، ونحاول أن نرسم ملامح الطريق ونتوافق على معالمه، وما هذه اللقاءات التي أصبحت صالوناً نجتمع فيه في أكثر من مكان للتفاكر والحوار ووضع النقاط على الحروف، إلا بهدف طي صفحات الماضي، وتلمس ما يمكن أن نبنيه معاً كمستقبل نستوعب فيه بعضنا البعض في مساحات المشترك القائمة بيننا.
إن من الجدير ذكره القول بأن كل الفصائل كانت حاضرة، ولقد شاهدت أيضاً وجوهاً لإخواننا في حركة فتح من جماعة الرئيس، جاءت هي الأخرى لتقديم واجب العزاء. الأمر الذي يبعث على الثقة والاطمئنان بأننا مع إخواننا في حركة فتح نقترب أكثر من اللحظة التي يجتمع فيها الشمل ووحدة الدم والقرار.
برجاء.. تفهموا أبعاد ما نصدع به
كنت - كعادتي - آمل أن نجد موقفاً يقول لنا فيه الرئيس أبو مازن: تعازينا لكم يا أهل غزة، فهذا المصاب هو مصابنا جميعاً، وكنت أود أن أكون بينكم لأشاطركم الأحزان.. كما كنت آمل أنا وشعبنا جميعاً أن نشاهده يشد الرحال إلى طوباس، لتعزية أهل الشهيد أو الاتصال بزوجته المكلومة في غزة. هذه مواقف كان شعبنا سيسجلها له ويعظم بها قدره.
إن ما شاهدناه اليوم يستدعي أن نقول لإخواننا في حركة فتح الذين شاركونا بحضورهم الواسع والمتميز من التيار الإصلاحي: شكراً لكم
لقد أسعدنا قدومكم، وأثبت مازن فقهاء باستشهاده (رحمه الله) أن "الدم ما بيصير ميه".
قد يعاتبني البعض فيما أكتبه حول هذا التيار الإصلاحي من حركة فتح، والذي يفاجئنا بمواقفه ومبادراته الوحدوية من حين لآخر، ولكني أقول لهم: أنا لا أمدح أشخاصاً، ولا أتزلف لأحد، ولا أطمع في ذهب المعز ولا أخشى سيفه، ولكني أتمنى لهذا الشعب بمختلف فصائله أن يجتمع شمله ويلتئم جرحه، فمديحنا هو للتوجهات الإيجابية لقيادات هذا التيار، كما أن رسالتنا في هذا الوطن أن تتعاضد الجهود وتتآزر الهمم، وأن نردد من الكلم الطيب ما يسهم في إقامة رأس جسر يتمدد مع الأيام ليصبح طريقنا للتواصل مع الآخر، الذي نزغ الشيطان بيننا وبينه، لنتسامح ونتعانق ويسابق كل منا أخاه في الاعتذار عن أخطاء الماضي، وطلب الصفح والمغفرة.
لقد عاشت أمريكا سنوات الحرب الأهلية يأكل بعضها بعضاً، وسقط الملايين من أبنائها في المواجهات المسلحة بين الشمال والجنوب، واستمرت تنزف لأكثر من خمس سنوات إلى أن قيض الله لها زعيماً يتسم بالعقل والحكمة، فأوقف تلك الحرب وعالج جذور الصراع في بلاده. كان أبرهام لنكولن هو من وضع حداً لنزف الدم بطي صفحة العنصرية والتمييز العرقي في بلاده، وقال كلمته المشورة: "إن البيت المنقسم على نفسه لا يمكنه الصمود، فضلاً عن عجزه على مقاومة الأعداء".
ومثل لنكولن كان نلسون منديلا، أيقونة التسامح في جنوب أفريقيا، وقيادات أخرى في الجزائر وفيتنام وألمانيا وإيرلندا؛ قيادات وضعت بحكمتها وبعد نظرها مصلحة البلاد فوق المصالح والأجندات الشخصية والحزبية، فتحررت أوطانها واستقرت بلدانها.. أما إذا بقينا كفلسطينيين نجتر خلافات الماضي وصراعاته، فلن تقوم للوطن قائمة، وسنظل نراوح في نفس المكان يلعن بعضنا بعضاً، ولن نبقي لأحد في هذا الوطن من فضل أو مجد يفخر به.
اليوم، نحن والإخوة في التيار الإصلاحي نعمل سوياً على تطبيب جراحات الماضي، والقفز فوق خلافاته، ويجتهد الخيّرون من رجالات الطرفين لبناء جسور الثقة والمحبة، وتعزيز الرؤية التي نتوافق عليها، كي نعمل معاً على قاعدة "هذا الوطن نحرره معاً، ونبنيه معاً".