تتواتر الأخبار بشأن اعتزام الرئيس الأميركي دونالد ترامب تمرير «وصفته» لتسوية فلسطينية ـ إسرائيلية، عبر مفاوضات تستمر ستة أشهر، وهو ما تبيّن بإرساله مبعوثه الخاص جيسون غرينبلات، أواسط هذا الشهر، لتسويق تلك الوصفة بين الطرفين المعنيين، خلال لقائه الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، كلاً على حدة.
ووفق التسريبات الصحافية، فإن الوصفة التي طرحها غرينبلات على الفلسطينيين تتضمن شروطاً ثقيلة الوطأة، أكثر من كل سابقاتها، وأكثر مما تتضمن تسوية تكفل لهم الحد الأدنى من حقوقهم. تضمنت هذه الشروط دخول الفلسطينيين في إطار تسوية إقليمية تضم دولاً عربية (مصر والسعودية ودولة الإمارات العربية والأردن)، وهذا لافت جداً ويتناسب مع رؤية الإدارة الأميركية الجديدة لأوضاع المنطقة، وضمنه استخفافها بحل الدولة الفلسطينية. كما تضمنت موافقة الفلسطينيين على طي صفحة الأنشطة الاستيطانية السابقة، على ألا تقام مستوطنات جديدة، ما يعني إضفاء شرعية فلسطينية على وجود حوالى نصف مليون مستوطن إسرائيلي في مستوطنات تقطع أوصال الضفة، وتعطيها السيطرة على مجال إقليمي يقدر بـ40 بالمئة من مساحة الضفة. وفضلاً عن هذا وذاك فقد تضمنت الشروط تغيير النظام التعليمي، بما يتساوق مع الرواية الإسرائيلية للصراع، وتاليا لذلك وقف أي مظهر للتحريض على إسرائيل وممارساتها، ووضع حد لأعمال المقاومة ومن يقف وراءها والمعاقبة علـــيها، ووقـــف دفـــع رواتب لأسر الشهداء والأسرى، وعدم تحويل الأموال لقطاع غزة (بدعوى وقف دعم «حماس»).
المشكلة أن المقابل لكل هذه الشروط المهينة، والتي لا تعترف بأي حقوق للفلسطينيين، أو تحطّ من قيمتها، يتمثل فقط بدعم إدارة ترامب فكرة دولتين لشعبين، أي مجرد دعم ولمجرد فكرة، لا أكثر من ذلك.
يستنتج من ذلك أن أي مراهنة على الإدارة الأميركية الحالية في غير محلها، فهي تبدو غير مستعدة لتقديم أي شيء للفلسطينيين، ولا إبداء أي نوع من الضغط على إسرائيل، بل إنها فوق هذين تحمّلهم هم، أي الضحايا، المسؤولية عن كل شيء بما في ذلك السياسات الإسرائيلية الاستعمارية والعنصرية والقمعية تجاههم!
هذا يحدث من الجهة الإسرائيلية، أيضاً، إذ أطلق إسحق هرتسوغ، زعيم حزب العمل، ما أسماه «خطــــة الـنقاط العـشـر»، التي يرى فيها بديلاً لسياسة «ليكود» واليمين الإسرائيلي، التي تأخذ إسرائيل إلى الانتحار، بحسب تعبيره. ولعل ما ينبغي إدراكه هنا أن منطلق هرتسوغ في ذلك ليس حقوق الشعب الفلسطيني، وإنما لاعتباره أن مشروع الاستيطان «وصل إلى مستوى يهدد وجود إسرائيل كدولة يهودية». ولأن «استمرار البناء في جميع المستوطنات طوال الوقت سيؤدي إلى استبدال دولة الأغلبية اليهودية إلى دولة أغلبية عربية... السيطرة المستمرة على شعب آخر وصلت إلى نقطة خطيرة تهدد طابع إسرائيل الأخلاقي وهويتها كدولة ديموقراطية... لا مصادرة ولا ضم لملايين الفلسطينيين، الذين سيطالبون بحقوق مدنية كاملة.» والمعنى هنا أن هذه الفكرة تتأسس على المخاوف مما يسمى «القنبلة الديموغرافية»، وأنه يرى أن وجود الفلسطينيين واستمرار السيطرة عليهم يهدد طابع إسرائيل الأخلاقي والديموقراطي لا مصادرتها لحقوقهم التاريخية في أرضهم، وهيمنتها عليهم وممارساتها ضدهم.
في العموم فقد تضمنت خطته المنشورة في «هآرتس» (22/2)، أن «السعي إلى السلام وحل الدولتين (مع وقف الاستيطان)... هو الحل الوحيد الممكن»، لكن ذلك برأيه سيحتاج إلى «فترة من عشر سنوات»، يعني حتى العام 2027؛ أي بعد 34 عاماً على اتفاق أوسلو (1993)، هذا إذا افترضنا حسن النية، ولم نأخذ في الاعتبار التجربة المريرة، المتضمنة تلاعبات الإسرائيليين وتملصاتهم ومحاولاتهم تكريس الاحتلال كأمر واقع على الأصعدة كافة، كما جرى طوال الفترة الماضية.
وعند هرتسوغ، في خطته تلك، ففي غضون السنوات العشر المقترحة «يتم تثبيت المنطقة في غرب نهر الأردن كمنطقة خالية من العنف بجميع أشكاله»... و «معاقبة أي نوع من الإرهاب والتحريض بلا هوادة... وتتوجه الأطراف في هذه الفترة نحو تطبيق حلم الدولتين. إسرائيل تستمر في عملية الانفصال عن الفلسطينيين من خلال استكمال الجدار الذي سيدافع عن القدس والكتل الاستيطانية، وإقامة حاجز بين القدس والقرى الفلسطينية المحيطة بها... الجيش الإسرائيلي سيستمر «في العمل في جميع أرجاء الضفة حتى نهر الأردن وفي محيط قطاع غزة. التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية يستمر وبشكل أكبر». في مقابل ذلك، تقوم إسرائيل بإعطاء صلاحيات أخرى للفلسطينيين في الميدان، بما في ذلك الصلاحيات المدنية في أجزاء من المناطق «ج»، و «تجميد البناء خارج الكتل الاستيطانية... باستثناء الاحتياجات الأمنية من أجل التمكين من تحقيق حلم الدولتين». أيضاً «يتم تسريع النمو الاقتصادي للفلسطينيين... بأدوات إقليمية ودولية، بما في ذلك تطوير المدن وإعمار مخيمات اللاجئين وخلق اقتصاد قابل للبقاء... الطرفان يعملان على إعمار غزة، بما في ذلك إقامة ميناء». هكذا وبحسب هرتسوغ، مع «مرور الوقت المحدد... يتم البدء بالمفاوضات المباشرة، بغطاء من دول المنطقة والمجتمع الدولي... من أجل السير باتجاه اتفاق السلام الكامل والنهائي... وإنهاء المطالب وإنهاء الصراع».
بيد أن الفكرة الجوهرية، أو المؤسسة هنا في نقاط هرتسوغ هذه تتمثل في ما تضمنته بشأن فكرة «السلام الإقليمي»، المتعلقة بقيام «دول المنطقة بدعم هذه الخطوات بشكل علني وبقوة، كجزء من خطوة إقليمية واسعة ودراماتيكية، وتبادر إسرائيل إلى إقامة مؤسسات شرق أوسطية مشتركة تعمل على التطوير الإقليمي والتعاون في مجالات مختلفة، من ضمنها الأمن والاقتصاد والمياه وانتقال البضائع والعمال، وتقترح أن تكون القدس مركزاً لهذا الوضع الإقليمي». ولعل هذا يذكرنا بمشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الذي طرحه شمعون بيريز، معلم هيرتسوغ، في أوائل التسعينات، والذي يختم قائلاً: «هكذا يمكننا أن ننقذ الكتل الاستيطانية والإبقاء عليها تحت سيادة إسرائيل. هذا سيكون الانتصار الحقيقي للصهيونية» («هآرتس» 22/2).
رداً على هذه الطروحات التي تنطوي على سذاجة، وعلى استخفاف واضح بمعاني التجربة التفاوضية الإسرائيلية- الفلسطينية، فقد سخر الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي، المعروف بمناصرته حقوق الفلسطينيين، من تلك الأطروحات، مقترحاً إضافة نقطة أخرى (الـ11) إلى تلك الخطة، ومفادها تواجد هرتسوغ ذاته في قفص لعشرة سنوات، مشبهاً إياه، في دعوته، كمن يضع الفلسطينيين في قفص ويطالبهم بالسير نحو تطبيق حل الدولتين. ويقترح ليفي بالمثل تسريع التطور الاقتصادي للقفص الخاص بهرتسوغ، وتحسين شروط حياته بإضافة حلوى لطعامه بين سنة وأخرى، وإعمار القفص، بل ووضع أرجوحة فيه وفق مواصفات أمنية مشددة، والإعلان عن قفصه كدولة في حدود مؤقتة، وفقط «وعند مرور المدة الزمنية (هذا إذا بقي هرتسوغ على قيد الحياة)، شريطة أن يكون سلوكه ملائماً خلالها، يقوم السجانون بإجراء مفاوضات مباشرة مع من يسكن القفص وبغطاء من دول المنطقة والمجتمع الدولي... باتجاه اتفاق سلام كامل ونهائي.» ويتابع ليفي: «إذا وافق على هذا البند –ولماذا لا يوافق؟!– سيكون بالإمكان حينها المبادرة إلى تنفيذ الخطة... بدلاً من خطة العشر نقاط لهرتسوغ إليكم خطة من نقطة واحدة: إنهاء الاحتلال. أمس. اليوم. فوراً. ليس هناك شيء آخر» («هآرتس»، 26/2).
وباختصار، وبناء على أطروحات الرئيس دونالد ترامب، ومقترحات إسحق هرتسوغ زعيم المعارضة وتيار الوسط في إسرائيل، لا يوجد البتة «بضاعة» حقيقية لتسويقها للتسوية مع الفلسطينيين، وكل ما هو مطروح مجرد إعلانات نوايا، أو «طبخة بحص»، مقابل تنازلات كبيرة من الفلسطينيين، على حساب حقوقهم وكرامتهم، وهذا ما يفترض إدراكه، بدل الاستمرار على ذات الأوهام، التي لا تفيد سوى في الحفاظ على امتيازات طبقة سياسية معينة واستمرارها؛ هذا أولاً.
ثانياً، لا توجد أوضاع مؤاتية لتسوية مع الفلسطينيين، لا دولياً ولا إقليمياً ولا عربياً، تضغط على إسرائيل في هذا الاتجاه، بل على العكس إذ الأوضاع السائدة تدفعها لفرض الأمر الواقع، ومجرد «تحسين» إجراءات التعامل مع الفلسطينيين ومع سلطتهم، بوصفها سلطة حكم ذاتي لا أكثر، حتى لو كان اسمها دولة.
ثالثاً، الأوضاع الراهنة، وضمنه تزعزع استقرار منطقة المشرق العربي، دولاً ومجتمعات، مع توجهات إدارة ترامب، تدفع نحو نوع من تسوية إقليمية من دون أي ثمن حقيقي يتعلق بالاستجابة لحقوق الفلسطينيين، سيما أن ثمة علاقات طبيعية مع أكبر دولتين عربيتين تملكان أطول حدود مع إسرائيل (مصر والأردن).
وهكذا، لا تسوية ولا صراع، وطبعاً لا حرب، هو مفهوم استمرار الأمر الواقع عند إسرائيل.
عن الحياة اللندنية