.. حتى المواطن الغزي، الذي يعيش ويتابع كل ما يجري فيها، لا يستطيع أن يتبين ماذا يجري في هذه المدينة، التي تتناقض فيها الأشياء والمسميات والأحداث، وحتى هؤلاء الذين يوصفون، أو يصفون أنفسهم بالمحللين السياسيين، والمتابعين لكل ما يجري على كافة الأصعدة، أعتقد أنهم أصيبوا بالعجز حول الإجابة عن السؤال المتكرر: ماذا يجري في غزة، وحول وعن غزة، كل إجابة تصطدم بتحولات وتعقيدات وتطورات تجعل الرأي حول ذلك، متلعثماً، عمومياً، متهرباً حيناً، ومتسائلاً أحياناً أخرى، غزة وقطاعها، تعيش حالة انقلاب في كل شيء، في كل لحظة، بحيث لم يعد بالإمكان استقرار رأي أو تشخيص، عادة وفي سباق العديد من ورشات العمل، العديدة والمتزايدة، ما يشكل البعض من أن الجميع يذهب إلى التشخيص دون الولوج إلى الحلول، وكأن أمر التشخيص بات معلوماً ومحدداً، في حين اني أذهب للقول، إن المشكلة في التشخيص أساساً، وهو مختلف عليه أكثر من أي شيء آخر، وهو مرآة حقيقية للحالة المعقدة الناجمة في الأساس من انعدام اليقين على ضوء ما تشهده الساحة الغزية، داخلها وخارجها، من تعقيدات وانقلابات في التطورات والمعطيات المتناقضة إلى أقصى حد، ما يجعل عملية التشخيص، ناهيك عن الحلول، مستعصية، بل مستحيلة في الغالب.
تعقيد تشخيص «الحالة الغزية» ينجم حسبما أعتقد، من ترابط الملفات المتشابكة من ناحية، واستعصاء فك طلاسم هذا التشابك وإعادة ترتيب الملفات، بقدر معقول من الفصل والانفصال، لمحاولة بحث كل ملف على حدة، إلاّ أن ذلك بات أمراً مستحيلاً، ما يزيد في تعقيد أي محاولة جادة لتشخيص الوضع الراهن في قطاع غزة، الذي بدوره ليس منفصلاً، ولا على أي درجة، مع عموم الوضع الفلسطيني والعربي والإقليمي، بل هو نتاج لكل هذه التقاطعات والتجاذبات، دون أن ننسى ولو لبرهة واحدة، الدور الفاعل والمؤثر للاحتلال الإسرائيلي، المسيطر على مجمل الحالة الفلسطينية، وعلى الأخص «الحالة الغزية».
السؤال الأبرز، السؤال الجامع بين كل المسارات والمساقات والتعقيدات والتشابكات، هل غزة ذاهبة إلى الحرب، أم ذاهبة إلى هدنة طويلة الأمد؟! وقد تحاول الإجابة، ممسكاً بكافة العناصر التي تشير، بلا منازع أو تشكيك، الى أن غزة تتوجه إلى الحرب، رداً على حرب إسرائيلية قادمة، بفعل القيادة الفاشية العنصرية وما نتج عن انتخابات الكنيست الأخيرة وصعود اليمين المتطرف إلى سدة الحكم، وللتهرب من الاستحقاقات الداخلية في إسرائيل التي تعلن يومياً عن استعدادات لهذه الحرب من خلال التدريبات وتسريبات التقنيات التسليحية الجديدة، وانها لن تنتظر حتى تكمل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة تطوير أسلحتها وإعادة بناء أنفاقها، وما يتسرب عن تجارب صاروخية شبه يومية.
وغزة محاصرة، تعيش تحت وطأة انهيار البنية التحتية، مع بطالة وفقدان الأمل، بلا مطار أو معبر أو ميناء، وانسداد في الأفق السياسي الداخلي، حتى أن أسهل الملفات، المتعلق بالموظفين، وكأنه غير قابل للحل، وحتى حكومة تم تشكيلها بالتوافق، لم تتمكن من أن تحكم في غزة، إضافة إلى أن ملف إعادة الإعمار ما زال قيد الانتظار، وربما الحل هو في الهروب إلى الأمام، الهروب إلى حرب، لا أحد بإمكانه السيطرة على نتائجها، لكن من شأنها أن تأتي بمعادلة جديدة، تقلب الأوضاع، بحيث تكون هناك مصلحة لكل الأطراف، لإيجاد حلول «للحالة الغزية» المستعصية!!
رؤية «الحرب» كمهرب، ربما هي التي تتكفل بتأكيد الخيار الآخر، التهدئة طويلة الأمد، فحتى تكون هناك تهدئة، فإن قرع طبول الحرب، وتسريب معلومات أو شائعات عن استعداد هنا وآخر هناك، لشن هذه الحرب، من شأنه أن يعجل في الجهود الرامية للتوصل إلى تهدئة فاعلة طويلة الأمد، فها هي جهود معلنة، عن بدائل، فالحالة الصعبة للمواطن الفلسطيني في قطاع غزة، تضطره للموافقة على أي حل يوفر له حياة عادية أفضل مما هي عليه الآن، هناك حلول للمعبر، وبدائله من مطار وميناء، وتوفير سلة تسهيلات، خاصة فيما يتعلق بالطاقة والكهرباء، وتوفير فرص عمل، وهذا كله لا يمكن أن يتحقق إلاّ في إطار من الاستقرار والتهدئة، وبدوره، فإن هذا يتطلب سلطة قادرة وفاعلة في غزة، أثبتت حركة حماس أنها مؤهلة لها، التوصل إلى تهدئة من هذا النوع، يتطلب جهداً ومثابرة من أطراف لها مصلحة في ذلك، الآن تظهر كل من قطر وتركيا، كراعيين لهذه الصفقة، التي من شأنها التوصل إلى هدوء واستقرار وهدنة، وفي ذات الوقت، تحول الانقسام إلى انفصال، تحت وطأة الأمر الواقع الذي تمت صياغته وصناعته باستغلال فقر وحاجة المواطن الغزي إلى شيء من الحدود الدنيا للحياة الإنسانية.
لكن هذه الوعود بالتهدئة والاستقرار، قد تخفي بدورها، استعدادات للحرب كشكل من أشكال التمويه على هذه الاستعدادات، هناك أطراف بحاجة دائمة إلى الحرب، لأنها مبرر وجودها في إطار الهدف الاستراتيجي: إنهاء الاحتلال، في حين ان الجانب الإسرائيلي يدرك أن فترة التهدئة، ربما ستشكل أداة لمزيد من الوقت لاستكمال الاستعداد لحرب قد تكون آخر الحروب وأهمها في المنطقة.
نعم، تحدثت كثيراً ولم أصل إلى إجابة عن السؤال.. وهذا ما قصدته فعلاً!!
الحرب الكبرى بين نتنياهو ونصر الله
20 سبتمبر 2024