من قال إن النووي يصنع السلام؟

هاني عوكل.jpg
حجم الخط

ثمة تحليلات كثيرة اعتبرت أن السلاح النووي يحقق توازناً عسكرياً لدى الدول التي تمتلكه وتلك التي تطوره وتزيد من أعداده وقدراته التفجيرية، غير أن العالم يتغير بسرعة وهناك أنظمة تتبدل ورؤساء أصحاب أمزجة يتطلعون إلى السلاح النووي على أنه مدخل حقيقي لحفظ الكرامة الشخصية والوطنية وكسب أي حرب كانت.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي صعد إلى سلم الرئاسة في الشهر الأول من العام 2017، أطلق تصريحات نارية حين وعد العالم بسباق تسلح، وأكد انتصار الولايات المتحدة فيه، وزاد على ذلك حين شدّد على وجوب أن تطور بلاده قدراتها النووية «إلى أن يعود العالم إلى رشده فيما يخص السلاح النووي».
هذا الكلام أطلقه السيد الأول في البيت الأبيض، الذي يصر على أن تكون بلاده متفوقة على الجميع نووياً، وأن لا تكون خلف أي دولة في العالم بهذا الموضوع، سواء أكانت صديقة أم حليفة.
العالم شهد إطلاق الولايات المتحدة الأميركية السلاح النووي إبان الحرب العالمية الثانية، وهذا السلاح كان حاسماً في هزيمة اليابان التي استسلمت على الفور العام 1945، فقد كان الرد الأميركي على قصف واستهداف ميناء بيرل هاربر انتقاميا وصعبا ويفوق كل التصورات، إذ على الرغم من أن الرد لم يكن سريعاً، إنما حين امتلكت واشنطن القنبلة النووية، ضربت اليابان في الصميم وفرضت نفسها بقوة على العالم.
تبع ذلك قلق عالمي من احتمال اندلاع حروب نووية، وتسابق العديد من الدول الرأسمالية والشيوعية وحتى النامية، في صناعة سلاح نووي يقيها من المخاطر المحتملة، ويضمن لها تفوقاً استراتيجياً أو حتى توازناً في الرعب، ويضمن لها الوصول إلى نظرية السلام المتوازن.
كثير من الدول النووية أقدمت على إجراء تجاربها في البحار والمحيطات، وفي الدول التي تستغلها أو تلك التي تعتبرها حدائق خلفية لها، وكم آذت هذه التجارب البشر والحجر والطبيعة بشكل عام، سواء تحت الأرض أو فوقها، ويشمل ذلك الغلاف الجوي والتأثيرات المباشرة وغير المباشرة على المناخ.
مع ذلك لم تراع الدول النووية إلا مصالحها، ولم يحصل أن شهد العالم انحساراً للأسلحة التقليدية أو الحديثة، إنما استتبع ذلك سباق في التسلح وتطوير مختلف القدرات العسكرية والصاروخية، ونسمع اليوم عن قنابل ذكية وصواريخ باليستية عابرة للقارات، وأخرى تحمل رؤوسا نووية، وقنابل عنقودية وجرثومية وفوق تدميرية... إلخ.
الولايات المتحدة الأميركية تمتلك الآن بين 6800 إلى 7000 رأس نووي، ومع ذلك فإن ترامب يسعى إلى تعزيز وتنويع القدرات النووية، من أجل ضمان التفوق في الأساس على روسيا التي تتفوق عليها في عدد الرؤوس النووية.
التجارب في العالم حاضرة على أن السلاح النووي بالفعل حقق نوعاً من توازن القوة بين دول تعادي بعضها البعض، ذلك أن الهند التي حصلت على السلاح النووي، كان يمكن لها أن تدخل في صراع كبير ومفتوح مع باكستان، لو أن الأخيرة لم تحصل على السلاح النووي.
قبل امتلاك البلدين السلاح النووي، وقعت حروب واشتباكات بينهما في الفترة بين 1947 إلى 1971، لكن بعد امتلاكهما النووي، تحقق نوع من التوازن الذي عزز من الحوار الدبلوماسي بين البلدين، دون إسقاط مناوشات تحصل بينهما من وقت لآخر في محيط كشمير.
العراق كان واحداً من الدول التي سعت إلى امتلاك مفاعل نووي، وبالفعل اشترت السلطات العراقية وقتها مفاعلاً نووياً من فرنسا العام 1981، لكن هذا المشروع أجهض على الفور عبر الطائرات الحربية الإسرائيلية التي ضربت مفاعل أوزيراك العراقي.
في منطقة الشرق الأوسط التي تعاني من اختلال في موازين القوى لصالح إسرائيل التي تمتلك السلاح النووي، فإن إيران تتطلع إلى امتلاك هذا السلاح، على الرغم من أنها تدعي أنه سلمي، لكن يختبئ خلف هذا الادعاء قناعة راسخة بأن الوصول إلى مرحلة التأثير الإقليمي والدولي ينطلق من امتلاك القوة العسكرية وليس القوة الناعمة.
وفي الوقت الذي يغض العالم الطرف عن امتلاك دول للسلاح النووي خارج نطاق اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية، كما الحال بالنسبة لإسرائيل، فإنه يقف بالمرصاد لبرامج نووية سلمية، والكلام هنا عائد للدول المؤثرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
على أن السعي لامتلاك السلاح النووي من قبل بعض دول العالم، لن يدفع بالتأكيد إلى خفض السلاح النووي والتأمل بإخلاء العالم منه، بدليل أن النوايا الدولية حاضرة ليس على مستوى تطوير الأسلحة الفتاكة فحسب، وإنما التأكيد على استحالة خفضها وتفكيكها.
الشواهد كثيرة في هذا الإطار، وكم عقدت الاجتماعات على المستوى الثنائي والدولي للحديث عن السلاح النووي، إنما ظل المشهد عموماً يتجه نحو التأكيد على أهمية امتلاك السلاح، فعلى سبيل المثال عقد اجتماع أممي في تشرين الأول 2016، لمناقشة اتفاقية جديدة ملزمة قانونياً بخصوص حظر الأسلحة النووية، لكن الدول المنضمة إلى النادي النووي أفشلت هذا الاجتماع.
آنذاك صوتت الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد هذه الاتفاقية، فيما امتنعت كل من الصين والهند وباكستان عن التصويت، وهذا يقدم دليلاً راسخاً على أن هذه الدول التي تمتلك جميعها السلاح النووي، ليس لديها الرغبة في التخلي عنه.
حتى أنه من المفترض عقد اجتماع مقرر في الأمم المتحدة لمناقشة المعاهدة الدولية الجديدة لحظر الأسلحة النووية يوم الاثنين المقبل، إلا أن حوالى 40 دولة من بينها الولايات المتحدة وفرنسا ستقاطع هذا الاجتماع، ما دفع بالسفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هالي بالتعليق إن «حظر الأسلحة النووية على مستوى العالم لن يكون واقعياً»، مشيرةً إلى أن الأمن القومي يستلزم وجود أسلحة نووية، بسبب ما وصفته قوى شر لا يمكن الوثوق بها.
إن عدم الاقتناع بضرورة التخلي عن السلاح النووي، يساوي تماماً فرضية احتمال استخدامه، ومن الممكن أن تلجأ إلى استخدامه الدول التي تمتلكه إذا ما فشلت بقوة في لغة الصراع أو شعرت بأخطار استراتيجية تهددها في الصميم.
أضف إلى ذلك أن العالم متوحش ومثلما هناك عقلاء يديرون البلاد وشؤون العباد، فهناك أيضاً مجانين قد يخلقون الأزمات أو يردون عليها بعشرة أمثالها، ولابد من استحضار النموذج الأميركي في هذا الشأن، مع العلم أن الولايات المتحدة كان يمكن لها أن تنتصر على اليابان دون استخدام القنبلة النووية.
ثمة دول كثيرة تقول إن الوقت غير مناسب للتخلي عن السلاح النووي، فهذا الكسندر مارشيك السفير النمساوي لدى الأمم المتحدة، ألمح في أكثر من مناسبة إلى أن بلاده والنمسا والسويد وإيرلندا والبرازيل وجنوب إفريقيا، تسعى جميعها منذ العام 1997 للتوصل إلى معاهدة لحظر شامل للأسلحة النووية على مستوى العالم، إنما هي غير قادرة على فعل شيء.
ويبدو أن العالم لن يستريح من الحروب والصراعات التي تتزايد، وهي كذلك في حالة تشكل النظام الدولي والطمع في التوسع الاستعماري الحداثي، إلى جانب التحديات المناخية والطبيعية التي تخلق هي الأخرى مصائب تستدعي الحروب.
كل تلك التحديات يستصعب العقل البشري إدارتها والتعامل معها بكل حكمة وإنسانية، ولذلك قد لا نتفاجأ في عودة سيناريو القنبلة النووية، وتكرار نفس المأساة البشرية التي علقت في الذاكرة الإنسانية ولم تسقط أبداً من الجغرافيا والتاريخ والأخلاق.