قعدت على الكرسي.. كلا، بل استلقيت على كرسي طبيب الأسنان. أنت تستلقي وتسترخي على كرسي طبيب التحليل النفسي (لم أجرب.. والحمد لله!) وأنت تستلقي ولا تسترخي على كرسي طبيب الأسنان. (من في عمري لم يجرب)؟
لديّ طبيب أسنان نمدحه ونقدحه. إذا مدحناه قلنا فيه: أحسن شاعر بين أطباء الأسنان؛ فإن قدحناه قلنا فيه: أحسن طبيب أسنان بين الشعراء!
دعكم من مكرور الكلام: من المهد إلى اللحد، ومن نافل القول: من التراب إلى التراب.. وهيا تهيؤوا لحقنتي تخدير مع حكمة: من آلام التسنين إلى آلام ترميم الأسنان وملحقاتها (قواطع، أنياب، أضراس). كل سن بورسلان أصلي يقضم مائة دولار من الرواتب. لا بد من آلام وأكلاف التجسير اتقاء آلام وأكلاف الزرع.
في بنود التأمين الصحي، عندنا وعند غيرنا، أن اقلع بالبلاش وازرع على حسابك، وأما قانون الزراعة والفلاحة، حسب أمي رحمها الله، فهو: إن لن تسقي فلا تزرع.. وما كنت أدري لماذا تبدأ قوانين حمورابي: السن بالسن قبل العين بالعين، مع أننا نقسم بنور العين!
كم عمرك؟ كم سنك.. كم سنا قلعت أو رمّمت في عمر الأربعين أو زرعت في عمر الستين؟ وكم سناً ستأخذه إلى لحدك؟ حمورابي على حق.. لأن أسرار بصمة السن انكشفت قبل أسرار بصمة العين (القزحية).. وفي الحالتين كان الموجب أمنياً أو جنائياً، فإن كنت جندياً ضاعت كل معالمك، سيطابقون هويتك ببصمة أضراسك!
ومن المعلومات أن ألوان أسنان البني آدم تتدرج إلى حوالي 20 لوناً، ولكل لون منها رمز من حرف ورقم، وهكذا علمت أن لون أسناني يحمل الرمز A3.5، كما زمرة دمي O+، ولا أعرف سلم تصنيف ألوان اللؤلؤ، غير أن وصف الأسنان الجميلة بـ(اللؤلؤ المنظوم) كلام شعراء لا كلام أطباء.
ماذا أضفتُ، من جانبي، لمعلومات طبيب أسناني المزمن؟ مثلاً: أن التمساح يستبدل بيولوجياً أسنانه الهالكة بأخرى وليدة. وهي نعمة لا يشاركه فيها الحمار والبني آدم.. وباقي الثدييات، فيحتاج الأول إلى طبيب بيطري؛ والثاني إلى طبيب يقرض الأسنان والقريض (أي ينظم الشعر أيضاً).
من نعمة حيونة البني آدم أنه ينتمي إلى طائفة المخلوقات اللبونة من ذوات الأنياب، التي مع آلام الأسنان في خريف العمر، تصبح ركائز لترميم الأسنان (رؤوس جسور).
صحيح أن الأنياب الإنسانية ضمرت في الطول، لكنها تبقى راسخة في الفكوك.. وفي بعض اللغات يقولون عن الأنياب الأربعة في فم سيد المخلوقات (الأسنان الكلبية) وقل الذئبية (وإذا كنتم شاهدتم فيلم المذؤوب فهي تعود للنمو عندما يكون القمر تمام البدر). سينما.. سينما!
ثمة بقايا حيونة مستترة في جسم الإنسان، غير الأسنان الكلبية هذه، ولعل أبرزها بقايا ذيل مستتر وضامر هو العصعص، ويحتاج الأمر تنشيطاً لجينة بيولوجية غافية حتى يستيقظ العصعص ذيلاً.. كما يزعمون، وهم، منذ الآن، يحاولون البحث في الخارطة الجينية عن ذلك الجين الغارق في سباته السحيق، وكان يساعد على نمو أصابع وأطراف جديدة في حال بترها لأي سبب كان.. وهذا يعيدنا بعيداً جداً إلى نظرية (أصل الأنواع) الداروينية، أي إلى صلتنا السحيقة بالسلحفاة وبالأخص، رغم تطور نوعنا إلى ذوات الدم الحار، وإلى طائفة الثدييات.
يقتات البني آدم بأسنانه كما تقتات الوحوش والبهائم المجترة، مع بعض التطور، ولكن يتحرك فكّا البهيمة أفقياً عامة بينما يتحرك فكّا الإنسان عمودياً عامة، لكن العملية متشابهة مع تفاوت أولوياتها بين نتش وقضم وعلك ومضغ وابتلاع وازدراد.. لذلك يقولون عن العناد والإصرار (يعض بالنواجذ) أي بالأنياب، أي بالأسنان الكلبية - الذئبية، أو يقولون (ازدرد طعامه) أي ابتلعه دون كثير طحن، إما عن نفس مصدودة، أو عن شراهة حيوانية.. وإما عن (فم أدرد) في آخر العمر، أي بلا أسنان تنتش وأنياب تقضم وأضراس تطحن.
إذا راحت أسنانك الكلبية قبل أوانها (ساعة الموت) راحت عليك، ولم يعد ينفعك طبيب أسنان عبقري، فعليك بالضبة أو الشدة.. لذلك، سارعت لضخ بعض الرواتب لجيب طبيب الأسنان، هرباً من الزرع (كل سن بـ 700 دولار، وهرباً من الضبة).
.. ولماذا؟ لأن طقم أسنان لا يغري امرأة بإعطائك قبلة.
للذهب ميزان قراريط وكذا لأسنان البورسلان قراريط.. ومن الأفضل أن تضحك بأسنان جميلة مع جيوب فارغة، على أن تصرخ بأسنان قبيحة وجيوب منفوخة.
نبدأ بسن الحليب، فإلى الحشوة والتلبيس، فإلى التجسير والزرع.. فإلى رحمة الله.