البحث عن السعادة

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبر تاريخه الطويل، اقترن الإنسان بالبؤس والمعاناة، ضمن علاقة جدلية ظلت تدفعه دوما لمحاولات الخروج من هذه الدائرة المأساوية.. الدين مثَّل أكثر الحلول تداولا.
الديانات السماوية التوحيدية أقامت بنيانها العقائدي على أن الله هو الخالق والمدبر، وسعت لتهذيب الإنسان وتقويم سلوكه من خلال الربط بينه وبين خالقه وحاجته إليه، وركزت على مفهوم العقاب والثواب والحياة الآخرة.
ومع ذلك، ورغم أن الدين متغلغل في ثقافتنا وسلوكنا وقيمنا، إلا أننا لم ننجح في الخروج من دائرة البؤس، ولم نحقق السعادة المطلوبة.
ربما يعود السبب إلى أن السلطات، ورجـال الـدين جعلوا من الدين أداة للتنظيم الاجتماعي ولكن بغطاء مقدس، تزعم بأنها الطريق إلى الله، وإلى السعادة.. ثم حـوّلوا تلك الديانات السـمحة إلى أصـوليات وعصبيات، وكفّروا كل من خالفهم، وصار الدين مجرد هوية عنصرية طائفية، وذريعة للحروب؛ فقضوا على الروح الحيوية الخلاقة لمبادئ الدين السامية، وزرعوا بقراءاتهم المغلوطة بدلا منها الشر والكراهية في كل مكان.
قبل المسيح بقرون ظهر "زرادشت" في إيران، وكل من "كونفوشيوس" و"لاوتسي" في الصين، و"بوذا" في الهند، و"سقراط" و"أفلاطون" في اليونان.. وهؤلاء مبشرون ومصلحون شقّوا لأنفسهم فلسفات أخلاقية لا ترتكز على وجود إله، أو أن الإله فيها ثانوي، ورأت أن سعادة الإنسان تنبع من داخله، وأن الجنة والنار في داخله وليستا خارجه.
الهندوسية مثلا، تكاد تخلو من قواعد التحريم والتحليل والعقاب والثواب، فهي أقرب إلى أن تكون فلسفة حياة موجهة نحو الذات البشرية، تسعى إلى تحريرها من أثقال الحياة والمادة والشهوات وصولا للاتحاد مع الذات الكونية.. البوذية التي انشقت عنها لم تكن معنية بالإجابة عن سؤال من خلق الكون؟ وركزت عوضا عن ذلك على تخليص الروح من عالم لا يحمل إلا الشقاء والمعاناة، ودعت للاتحاد مع الطبيعة، بالاعتماد على قوة الإنسان الداخلية وحدها.
ديانات أخرى اعتبرت أن التأمل أفضل وسيلة لتنقية الذات وإحلال السلام الداخلي في قلب الإنسان تمهيداً لمرحلة الاستنارة، ورأت أن إطلاق الطاقات الروحية والعقلية للإنسان وتوجيهها نحو الطريق الصحيح تعطيه شحنة علوية تمكنه من التوحد والانسياب التلقائي مع الطبيعة، فيتقبل عملها كما هو دون اعتراض، واعتبرت أن الطبيعة تحرر الإنسان من أنانيته وتسمو به إلى آفاق روحانية عليا، وكلما ابتعد عنها، أو آذاها زاد شقاؤه وابتعد عن إنسانيته.
ولكن المؤمنين في تلك البقاع حولوا فلاسفتهم إلى آلهة، وجعلوا مبادئهم متعالية على الواقع، وهم ليسوا أفضل حالا من غيرهم، فقد ظلوا مغتربين ومعذَّبين.
إذن؛ فالأديان (المنـزلة والأرضية)، عرّفت الإنسان وغايات وجوده وأسباب سعادته، وسعت لتخليصه من شروره.. ولكن، كما يقول "روجيه غارودي" إن الإنسان ومنذ الثورة الصناعية أخذ منحى آخر، أراد أن يحل مكان الخالق، فانتهى به المطاف أن حلت الآلة مكانه.. حَلم هذا الإنسان أنه سيتمكن بواسطة المادة وما شكّل بواسطتها من اختراعات أن يصبح سيد الطبيعة والمتحكم فيها، فقاده جشعه للتحكم بالشعوب الأخرى وسحقها، كان الرجل الأبيض بطل هذه المغامرة، فسمّى انتصاره على الشعوب المقهورة تقدما وحضارة!
أبرز منظري الرأسمالية "آدم سميث" ادعى أن المنفعة العامة هي حصيلة المنافع الشخصية، إلا أن التقدم التكنولوجي لتحقيق تلك المنفعة أدى إلى طرد الإنسان من خطوط الإنتاج، وجعل منه زائدة لحمية لا حاجة لها في نظام المسننات والآلات الرقمية، ومع زيادة الأتمتة تفاقمت البطالة وتضخم الإنتاج، ومعه تضخمت الطبقات الثرية وازدادت الفجوة بين الطبقات اتساعا، فنشأت في قلب هذا النظام المتوحش طبقات من المسحوقين والبؤساء.
ومن ناحية ثانية أدى تصادم المصالح بين القوى الرأسمالية إلى حروب عالمية ومحلية كانت شعوب العالم الثالث حطبها ووقودها، ومرة ثانية وباسم الحضارة اقترف هذا الغرب المتحضر أكبر الجرائم وأبشعها، بدءاً بتجارة الرقيق، وإبادة الهنود الحمر في أميركا والأبورجينز في أستراليا، إلى هيروشيما وفيتنام، وصولا إلى فلسطين والعراق.
الشيوعية التي قامت على الفلسفة المادية، ووعدت شعوبها بيوتوبيا أينما حلّت وانتصرت، سرعان ما تحولت إلى ديكتاتورية، انتهت بزلزال أسقطها من عليائها النموذجي الاشتراكي، وربما إلى غير رجعة.
الحداثة انتهى بها المطاف إلى تصحُّر الإنسان وجفاف علاقاته الاجتماعية، وتحوله إلى منتج ومستهلك، أما إفريقيا التي ترُكت للعصابات والمجاعات، فهي لا تعاني من وفرة الإنتاج وتداعيات الأتمتة وتعقيدات التكنولوجيا، إنما تعاني من الجماعات المسلحة، التي كلما كان اسمها أجمل كانت ممارستها أفظع وأبشع.
يقولون إن اليابانيين أكثر شعوب الأرض سعادة، ذلك لأنهم تخلوا عن إلههم بعد أن وقّع صك الاستسلام، وجعلوا الدين من خلفهم، وانطلقوا نحو المستقبل.
ويقولون أيضا إن الشعوب الإسكندنافية هي الأسعد والأكثر رفاهية، لأنها تبنت دولة المواطَنة، القائمة على الحقوق والواجبات، والعدالة الاجتماعية.. حسناً، هذا كلام جميل، ولكن من يضمن لنا سعادة الإنسان هناك، في ظل نظام لا يعرف الراحة ولا يجد وقتاً للتأمل؟ ويقول البعض إن الإنسان "البدائي" الذي يعيش في مجاهل الأمازون والجزر النائية هو الوحيد الذي يتمتع بالسعادة؛ فهو يمضي جل نهاره بالصيد وجمع الثمار ليتعشى في المساء بين أحضان الطبيعة البكر مع عائلته بكل سلام، وهو ليس مضطراً للتعامل مع مشاكل العصر وتناقضاته وصراعاته، ولا حاجة له لكل مخترعاتنا وأساليبنا المعقدة في العيش، ولكن هل حقا هو سعيد ومرتاح!؟ إذن، أين هي سعادة الإنسان؟ وأين هو النظام الذي عبر عن قيمته؟
يقولون أيضا إن الفن هو التعبير الحقيقي عن دواخل الإنسان ودوافعه، ولكن حتى يكون كذلك يجب أن يتسم بالإبداع، وإلا أصبح مجرد وسيلة للكسب.
ويقولون إن الحب هو سر الإنسان ومعناه وجوهره، باعتباره علاقة روحانية لا تعبر عن متعة الجسد فقط؛ بل وعن متعة العقل والروح أيضا.
ويؤكد "المؤمنون" أن مناجاة الله دون واسطة، تجلي القلوب، وتصفيها، وتغمرها بالسكينة والطمأنينة؛ لأن لدى كل مؤمن شعوراً عميقاً، وغامضاً بأن الله معه.. لكن رجال الدين اختزلوا العبادة بالطقوس، ونزعوا من الأديان سماتها الروحية والإنسانية، وحولوا أتباعهم "المؤمنين" إلى قبائل متناحرة.
الإنسان لن يتحرر من أسئلته ولن يتخلص من عذاباته، لكنه قد يجد ضالته في أبسط الأشياء، وقد يعثر على سعادته حيث لا يتوقع.