يمكن القول: إن الرئيس الأميركي، ومن حيث لا يدري أو من حيث لم يخطط، قد حاز على موقف سياسي جيد، وذلك تجاه حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، دون استثناء، بما في ذلك الحليف الإستراتيجي، إسرائيل، فالرجل حين كان مرشحاً لرئاسة الولايات المتحدة، أطلق مجموعة شعارات "متطرفة"؛ وذلك بغرض لفت انتباه الناخبين، الذين بالفعل صوتوا له وفاجؤوا الدنيا كلها بفوزه بالمنصب بالضد من كل استطلاعات الرأي والتوقعات التي كانت تشير، حتى ما قبل موعد إجراء الانتخابات بأيام قليلة، إلى فوز منافسته المرشح الديمقراطي، هيلاري كلينتون.
حتى يتراجع، اليوم عن وعوده بنقل سفارة بلاده في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، لا بد من أن يقبض ثمن بضاعة لم ينتجها، بل هي لم تكن أصلاً أكثر من وعود في الهواء، وهذا الثمن اجتمعت كل الدول العربية في قمة البحر الميت الأسبوع الماضي لتبدي استعدادها لدفعه، على شكل "ولاء" وتوافق سياسي تام مع السياسة الأميركية في المنطقة، وحتى يتراجع دونالد ترامب عن اعتباره المستوطنات ليست عقبة لا في طريق الحل السياسي ولا في طريق التفاوض، فلا بد من أن يقبض الثمن من الجانب الفلسطيني، بإبداء الاستعداد مجدداً للقبول بالرعاية الأميركية المنفردة للمفاوضات، حتى لو جاء ذلك استجابة لإعلان إنشائي غير محدد المعالم بجدية الرئيس الأميركي بالتوصل لحل، وحتى يقول بحل الدولتين، فلا بد من أن يقدم له ثمن باهظ، ليس أقله استعداد الجانب الفلسطيني للعودة للمفاوضات دون شروطه التي كان قد وضعها من قبل.
وحتى يبدي الرئيس الأميركي استعداده لاستقبال القادة العرب، فلا بد لهم من أن يقدموا الخطوط العامة للسياسة العربية تجاه كل ملفات المنطقة، بما يقطع الشك باليقين بأن العرب ما زالوا في "الجيب الصغرى" لواشنطن، وحتى يوافق على استقبال الرئيس الفلسطيني، فلا بد من أن تعمل أجهزة امن السلطة وفق اتفاقات التنسيق الأمني بكامل طاقتها، ولا عزاء لأحد.
برافو ترامب، حيث يبدو أن الدفع باليمين والتشدد والاتجاهات والأحزاب اليمينية يؤتي أكله، فبعد أن استقر الحال بإسرائيل التي باتت هي من لا يحتاج مفاوضات طحن الهواء مع الجانب الفلسطيني، بعد انعدام رد الفعل الشعبي الفلسطيني على الاحتلال وإجراءاته، حيث كان من قبل إجراء التفاوض من أجل التفاوض عامل تهدئة شعبية، مريحة لإسرائيل، تعزز من وجود السلطة ومن تعزيز فكرة الاستقلال الفلسطيني، وذلك بعد حكومات يمينية متتابعة حكمت إسرائيل، منذ ما بعد أوسلو مباشرة، وبعد هذا الذي عرضناه أعلاه من موقف سياسي يتمتع به رئيس جمهوري أميركي يميني متشدد، لم يكن بحاجة إلى تقديم واجب حسن النية للعالم الإسلامي أو العربي، كما فعل سلفه باراك أوباما، حين جاء للقاهرة يخطب ود العالم الإسلامي ليرفع من وتيرة تأثير واشنطن في المنطقة، لذا فربما يشجع ذلك الأوروبيين للحذو حذو تل أبيب ومن ثم واشنطن، وذلك من خلال الدفع بالقادة اليمينيين المتشددين للسير على أسهل الطرق التي من شأنها إحكام السيطرة وتحقيق تبعية مطلقة من قبل العرب أولاً والمسلمين ثانياً لهم، ومن الواضح أن إعادة إحكام قبضة الغرب على العرب، ومنعهم من "التسرب" أفراداً أو جماعات لإيران أو تركيا، مما يقوي من حظوظ الدولتين المسلمتين الشرق أوسطيتين كمنافستين للغرب في المنطقة. لذا فإن نتائج الانتخابات الفرنسية التي ستجري بعد أيام تعتبر _ برأينا _ مؤشراً مهماً، ذلك أنه لو فازت ماري لوبن بالرئاسة، فإن ذلك يفتح أبواب الدنيا كلها لحكم اليمين القومي في العالم.
المهم، هو إنه بعد زيارة الرجل القوي في السعودية، الأمير محمد بن سلمان لواشنطن، ومن ثم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تكون واشنطن قد ضمنت "عودة" المحور العربي المعتدل والرئيس للاحتماء بعباءتها وإنه _ أي هذا المحور _ لن يفكر في خيارات بديلة عن واشنطن، لا إيران ولا تركيا ولا حتى روسيا _ وإنه وبحالته من الضعف، لن يحلم بثمن للقيام بكل ما يحقق المصالح الأميركية في المنطقة، حيث إن الأمر سيبدو تحقيقاً للمصالح المشتركة، خاصة حين يتم توجيه البوصلة نحو إيران، حيث تتوافق أميركا، إسرائيل وسنة العرب.
الضمان الوحيد الذي يكفله ترامب هو عدم فتح المجتمعات العربية مجدداً، وبالتالي عدم فتح الأبواب أمام احتمالات إسقاط بعض الأنظمة، كما فعل سلفه الديمقراطي، أما في الملف الفلسطيني، فيمكن أن يقدم ترامب اختراقاً شكلياً، بإطلاق عملية التفاوض، ومن أجل ذلك، واحتفاء بذلك، ربما تتم الدعوة لمؤتمر إقليمي، يشارك فيه حلفاء الغد، أي يتم من خلال مؤتمر يعلن أنه يهدف لإطلاق المفاوضات الفلسطينية / الإسرائيلية، بمشاركة دول محور الاعتدال العربي، إلى جانب الأردن ومصر، تشارك السعودية، المغرب، الإمارات، وقطر، مقابل إسرائيل، برعاية الولايات المتحدة، أي يكون هناك "مدريد إقليمي" يفتح الباب لنشوء علاقات ثنائية بين كل من إسرائيل والدول العربية التي ليست لها معها اتفاقات سلام ولا حدود جغرافية.
فيتحقق بذلك الهدف من كسر حدة الاستعصاء، بفتح بوابة التحالف الأمني الإقليمي، وفي الوقت نفسه وضع حل الملف الفلسطيني على "خط سكة حديد" متواز أو ثنائي الإطار، ونقصد أن يتم حله في سياق الأمن الإقليمي وفي إطار الحل الإقليمي، فتكون "دولة فلسطين" الناجمة عن مثل هذا السياق أشبه بحكومة عموم فلسطين التي أقيمت بعد العام 1948 في قطاع غزة فقط، برعاية الجامعة العربية، ولمزيد من التأكيد وحتى لا يكون مثل هذا المؤتمر الإقليمي مناسبة عابرة، كما كان حال مدريد الأصلي، فيمكن إعلان "ناتو شرق أوسطي" من أجل هذه المهمة، يذكّر بحلف بغداد _ مثلاً _ الذي كان بعد الحرب العالمية الثانية وبهدف تعزيز النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة.