نشرت منظمة «نحطم الصمت»، قبل أيام، تقريرا جديدا فيه أكثر من 60 شهادة لجنود شاركوا في الحرب على غزة في الصيف الماضي. ويقول الخبير القانوني ايال جروس حول هذا التقرير: «اذا كانت الضحايا والدمار الذي خلفه الجيش الاسرائيلي في غزة تصرخ للسماء ادعاءً، فإن الشهادة التي يقشعر لها البدن والواردة في التقرير تكمل الصورة حول سلوك الجنود والاوامر التي حصلوا عليها.. هذه الشهادات المقلقة تثبت الانحراف الخطير عن المبدأ الاساسي لقانون الحرب.. وتظهر الشهادات اخلالا بهذه المبادئ».
تظهر كلمة «زعماً» المتكررة في قائمة جروس عدة مرات ايضا في مقالة عاموس هرئيل حول التقرير الجديد لـ»نحطم الصمت» («الاجندة لا يجب ان تلغي الادعاءات»، «هآرتس» 5-4). يقول هرئيل: «توجد في التقرير شهادات مفصلة لمقاتلين وضباط وحديث عن وقائع أخل خلالها الجيش بالقانون الدولي ومبادئ الحرب التي يتبناها هو نفسه. يقترح هرئيل التعامل مع التقرير بجدية وفحص «الادعاءات ذاتها»، رغم ان المنظمة التي اعدت التقرير لها أجندة سياسية». ويقول: «من الواضح انهم يعملون من منطلق قناعات يسارية».
حتى هنا كلام الخبير القانوني والصحافي.
أنا لست قانونية ولا صحافية، وقرأت تقرير «نحطم الصمت» بعيون اخرى. من خلال معرفتي وقراءتي، ومن خلال تقرير آخر اعدته «بتسيلم»، نشر قبل خمسة اشهر ويستند الى 70 حادثة من تلك الحرب، فق قُتلت عائلات كاملة داخل بيوتها، والمعلومات التي بحوزتي بناء على متابعة شخصية في اعقاب الاخبار في جميع انحاء العالم خلال الحرب وبعدها – انطلاقا من كل ذلك فإنني اختلف مع الكلمات والتعبيرات التي تستخدم من قبل الخبراء. ومصطلح «زعما» غير صحيح هنا. وايضا كلمات «حوادث» و»ادعاءات» ليست دقيقة. اما المصطلح «أجندة سياسية» فلا علاقة له بالأمر.
في النقاش حول الحرب التي قتل فيها 2.200 شخص في أقل من شهرين وأصيب اكثر 11 الف معظمهم من المدنيين، واكثر من نصف مليون شخص هجروا بيوتهم، و20 الف بيت دمرت او لحقت بها اضرار كبيرة، وأجزاء كبيرة من الاحياء مسحت عن سطح الارض – في نقاش حول هذه الحرب لا داعي لتكون خبيرا بقوانين الحرب وليس يساريا للقول انه لم تحدث هنا حوادث وانما حرب ممنهجة من الجو واليابسة ضد المواطنين العزل.
في تقرير «نحطم الصمت» لا يدعي الجنود «ادعاءات» ولا يتهمون. انهم يتحدثون ويصفون ما فعلوه وما رأوه. بعضهم يتحدث عن جوانب اخلاقية وتحفظات، ويوجد من أثار إعجابهم ما رأوه:
«أولاً وقبل كل شيء من اللافت رؤية دي 9 تسقط بيتا واسعا من طابقين، كنا في منطقة قروية غنية، وبيوت جميلة جداً، كنا في مكان إلى جانبه بيت مع فيه غرفة أطفال، كما في إسرائيل، كل مرة تدخل دي 9 تسقط جزءا من الجدار وبعد ذلك تستمر. تسقط جزءا آخر من الحائط وتبقى فقط الاعمدة، وفي النهاية يبقى البيت عاريا، وعندها بضربة واحدة يسقط البيت. ببساطة كانت دي 9 جزءا اساسا من العمل، لقد عمل بدون توقف تقريبا. وحول سؤال كيف بدا الحي عندما غادر الجنود، قال الجندي: «خراب، الكثير من الباطون المفكك، وللأسف الكثير من المناطق الزراعية محفورة من قبل الدبابات».
جندي آخر يقول: «أذكر أن هذا كان هستيريا، فحجم الدمار مثلما في الافلام، كأنه غير حقيقي، بيوت مع شرفات تندفع خارجاً والكثير من الحيوانات. الكثير من الدجاج الميت والحيوانات الميتة. في كل بيت ثقب في الحائط أو شرفة سقطت. لا توجد شوارع بتاتا. أذكر أنه كان هنا شارع لكنه لم يعد موجودا. كل شيء رمل، رمل، أكوام من الرمال وأكوام من الدمار والبيوت المهدمة، تدخل وتخرج من البيوت عن طريق الثقوب والفتحات. فوضى من الثقوب والباطون، لم يعد شارعا. أذكر أنه في كل يوم كنا نحصل على صور جوية جديدة وفيها نقص بيوت أخرى من الخارطة. ببساطة ترى ما يشبه صناديق الرمل».
أحد هذه الشوارع الذي «لم يعد شارعا»، حيث تسكن عائلة الحاج: في تاريخ 15 تموز سقط البيت في مخيم اللاجئين خان يونس بسبب صاروخ أطلق من الطائرة وقتل ثمانية من أبناء العائلة وبناتها. في شارع آخر تسكن عائلة أبو جامع: في تاريخ 20 تموز قصف سلاح الجو بناية سكنية في بني سهيلا وقتل 24 من أبنائها وبناتها. توفيق أبو جامع، الذي قتلت زوجته وستة من اولاده السبعة، يقول: «فجأة فقدنا كل شيء، العائلة والبيت مسحا في لحظة... كل ما تبقى لي هو عدة صور للأولاد في الهاتف النقال التي صورتها في حفل زفاف قبل شهر رمضان بأسبوع. أفتح الهاتف دائما وأنظر الى الصور وأتذكر أولادي ومراحل حياتهم المختلفة». (تقرير «بتسيلم»، كانون الثاني 2015).
لا يمكن لأي ادعاء في دولة اسرائيل أن يصمد في وجه هذا الوصف وهذه الشهادات في تقريري «بتسيلم» و»نحطم الصمت» وايضا للصور التي يشاهدها كل انسان. في ذلك الحين واليوم ايضا لا يمكن لأي ادعاء أن يصمد، لأن نتائج الحرب موثقة. ولا يلزم نقاش قانوني لهذا الامر. أحد الجنود قال ذلك بكلمات بسيطة جدا: «أذكر أنني قلت إن مواطني غزة، ومن كل قلبي، لا يستحقون شيئا، واذا استحقوا شيئا فهو إما القصف الشديد أو الموت، هذا ما فكرت فيه في تلك الاثناء». هذا ما قاله لنفسه وهذه كانت روحية الأوامر.
اضافة الى ذلك، بهذه الكلمات الشديدة صاغ الجندي نفسه السياسة الاسرائيلية في جميع الحروب، التي تمت جميعها وسط السكان المدنيين – ليس فقط في غزة بل ايضا في لبنان قتل وأصيب آلاف المواطنين وهُجر الكثيرون. هناك ايضا ساد المنطق الواحد والوحيد وهو الرد الاسرائيلي ضد من يحارب اسرائيل «يجب تنظيف السكان المدنيين في جنوب لبنان لأن «حزب الله» يحارب من هناك، وبيروت لأن الفلسطينيين يحاربون من هناك، يجب قطع المياه والكهرباء ومحاصرتها وقصفها من الجو والبحر والبر. وقطاع غزة، حيث تحارب «حماس» من هناك، يجب تدميرها كليا، لأنه لا توجد قطعة ارض غير مكتظة أو غير مزروعة، واذا كانت الظروف الدولية لا تساعد على تدميرها، على الاقل يجب اعادتها عشر سنوات الى الوراء. الـ 1.8 مليون انسان الذين هم في الأصل لا يتمتعون من ثمار التقدم في القرن الواحد والعشرين.
إسرائيل ليست مضطرة الى وضع قاذفات في البيوت السكنية في اسدود وعسقلان – تخرج طائراتها ودباباتها وسفنها من مواقع عسكرية. لا يوجد أي حسم أخلاقي من جهتها، وهذا لا يعني أنها تدير حربها من وسط السكان المدنيين، بل بالعكس، ليس فقط أن الجهاز العسكري الضخم يعمل من المدن الكبيرة بل ايضا ان جنودها جاؤوا من كل بيت في اسرائيل «كل الشعب جيش» والكثير من المواقع العسكرية موجودة في مناطق سكنية.
طالما لا توجد في اسرائيل استعدادية للسلام مع الفلسطينيين – ولا يوجد لديها حل سلمي منذ عشرات السنين، فإنها خرجت وستستمر في الخروج للحرب التدميرية الكبيرة او الصغيرة ضد المدنيين. ومن اجل تحديد ذلك لا حاجة الى نيابة عسكرية أو محكمة، تكفي معرفة حقيقة ان الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية هم من المدنيين ويعيشون باكتظاظ على الارض التي لم يطردوا منها بعد، محبوسين بداخلها، وتحاربهم دولة اسرائيل بشتى الطرق المتوفرة لديها، في هذا الواقع فإن حروب اسرائيل هي جرائم حرب، هذا ما يقوله العقل.
عن «هآرتس»