اللعب على وتر الكيماوي

هاني المصري.jpg
حجم الخط

تصدّر موضوع الهجوم الكيماوي على بلدة خان شيخون في إدلب السورية، أجندة الدول الكبرى المؤثرة في النزاع السوري، بين طرف يدين نظام الأسد لاستخدامه الكيماوي، وطرف آخر يرى أن مصدر هذا السلاح يعود إلى مستودع للمعارضة السورية قصفته الطائرات السورية.
اللافت للنظر في هذا المقام، هو أن الهجوم الكيماوي وقع بعد أسبوع تقريباً على تصريحات مهمة صادرة عن الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا حول الموقف من الرئيس بشار الأسد، حيث اعتبر البلدان أن الواقع السياسي في سورية بات يستلزم التركيز على محاربة التنظيمات الإرهابية والفكاك من قصة مستقبل الرئيس السوري.
رسالة واشنطن من تركيا بعثها وزير الخارجية ريكس تيلرسون إلى العالم وحلفائه، حين قال: إن وضع الأسد سيقرره الشعب السوري، في موقف يعني بكل وضوح أن الإدارة الأميركية لا تنظر إلى موضوع مستقبل الرئيس السوري بذلك الاهتمام الذي كانت تراه إدارة أوباما.
حتى أن الموقف الفرنسي بدا مشابهاً لنظيره الأميركي في نفس الموضوع، وهذا يُشكّل بحد ذاته تغيراً في السياسة حين تغير واشنطن وباريس رأيهما حول مصير الأسد، وهما اللتان كانتا تؤكدان أولوية رحيله عن السلطة.
هجوم الكيماوي جاء وغيّر هذا المعادلة الجديدة، وبالفعل صدر عن وزير الخارجية الفرنسي جان مارك آيرو تصريحات مفادها بأن على الإدارة الأميركية تحديد موقفها من الرئيس الأسد، وأن هجوم خان شيخون بمثابة رسالة اختبار لهذه الإدارة.
كان ملاحظاً أيضاً أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد ذهبوا إلى حد اتهام النظام السوري بأنه الطرف الذي استخدم الكيماوي في إدلب، إذ عكست مختلف التصريحات اتهاماً واضحاً ومباشراً وغير مباشر لنظام الأسد، ولم تخرج تصريحات تستبق الاتهام وتدعو إلى التحقيق في ملابسات الموضوع. وهو نفس الأسلوب الذي بادرته روسيا، حين اتهمت المعارضة السورية بأنها المتسبب الأساس في هجوم الكيماوي.
الآن رأي الرئيس الأميركي ترامب قبل الكيماوي حول سورية مناقض تماماً لرأيه بعد هذا الهجوم، حيث قال: إن موقفه تجاه الأسد وسورية تغير، واستكمل وزير خارجيته ريكس تيلرسون نفس الموقف بمطالبة روسيا أن تفكر من جديد في موضوع دعم نظام الأسد.
الموقف الفرنسي ومعه البريطاني صار يتحدث بعد الكيماوي بقوة عن الدعوة لرحيل الأسد عن السلطة، والفرنسيون يسعون إلى إيجاد قرار في مجلس الأمن يعاقب الحكومة السورية على موضوع الكيماوي، بعد فشل اجتماع الكبار في المجلس على إدانة سورية الأسد. 
في موضوع الكيماوي، خرجت روايتان متناقضتان، واحدة تعكس موقف روسيا والنظام السوري، وأخرى تعكس الطرف الآخر منهما، إذ أكدت المعارضة السورية أن القوات الجوية التابعة للنظام السوري أطلقت السلاح الكيماوي على المدنيين في خان شيخون.
روسيا التي رفضت أن يزج باسمها أو بطيرانها في كونه استخدم السلاح الكيماوي بسورية، قالت: إن الجيش السوري أطلق صواريخ على مستودع للذخيرة تابع للمعارضة في إدلب، يحمل أسلحة كيماوية أدت إلى مقتل عشرات المدنيين.
السؤال هنا إذا كان النظام السوري مسؤولاً بالفعل عن استخدام السلاح الكيماوي، فلماذا يجازف بالقوة العسكرية والسياسية التي يتمتع بها، وتوالي غض الطرف الدولي عن رئيسه، وهو الذي غيّر موازين القوة العسكرية لصالحه؟
القصد من ذلك هو أن النظام السوري بات في موقع عسكري متقدم، والضغوط الدولية تتراجع في مسألة التغاضي عن بقاء الأسد في السلطة، في إطار ما يحققه بالواقع الميداني، فلماذا يستخدم السلاح الكيماوي في معركة هو متقدم فيها، وهو الذي يعلم تماماً أن استخدام مثل هذا السلاح مأزق عويص وإحراج له ولحليفته روسيا التي تحميه كل الوقت؟
ملف الكيماوي هذا سيجري استخدامه بالطريقة التي تنسجم ومواقف القوى الدولية المؤثرة في النزاع السوري، خاصةً وأنه ملف جيد للمساومة السياسية، كما كان الحال إبان الهجوم الكيماوي في محيط مدينة دمشق، الذي وقع عام 2013 وخلّف حوالى 1400 قتيل وجريح، وأدى إلى تخلص النظام السوري من ترسانته الكيماوية.
من وراء الهجوم الكيماوي يبدو الآن أن موضوع محاربة الإرهاب في سورية لم يعد هو الأولوية الوحيدة على أجندة الإدارة الأميركية، وترامب الذي لم يحقق نجاحاً على المستوى الداخلي، ولم يتمكن من تمرير مشروع قانون ينسف قانون الرعاية الصحية "أوباما كير"، وفضّل ربما التوجه خارجياً لإعادة إذكاء الحرب الباردة مع روسيا، مستفيداً من هجوم خان شيخون، على اعتبار أن معاداته لروسيا وتصعيد لغة الهجوم معها قد تجعل الرأي العام الأميركي يلتف حوله. وإلا فكيف يمكن فهم تغير المزاج الأميركي من القضية السورية بغضون أسبوع؟
ثم إن هجوم الكيماوي يمثل ورقة ضغط للمساومة مع روسيا في موضوعات معينة، وهو نفس الحال بالنسبة لأوروبا التي تبتز موسكو في الموضوع السوري من أجل تحصيل مكتسبات سواء في الملف الأوكراني أو قضايا أخرى.
وتدرك موسكو ذلك وتعلم علم اليقين أنها لو سمحت للولايات المتحدة وحلفائها أن يسيطروا على سورية، فهذا يعني مقدمة انحسارها هناك وبداية للانحسار في ملفات أخرى، ولذلك لم تتوقف روسيا عن تقديم الدعم للنظام السوري لأن النجاح سيعني تغيراً مهماً قد طرأ في شكل النظام الدولي.
بالتأكيد سيؤثر كيماوي خان شيخون على مسار النزاع العسكري وعلى خريطة اتفاق وقف إطلاق النار الصامد في حدوده الدنيا، كما سيؤثر على المسار السياسي برافديه: جنيف وأستانا، وهو انعكاس لتعميق الخلاف الواقع بين القوى الكبرى المؤثرة في النزاع السوري.
نعم، إنه نزاع طويل لا يريد أي طرف دولي الانسحاب منه، ويجري استثماره وإطالته عند كل طرف على قاعدتين لا ثالث لهما: الانتصار أو لا غالب ولا مغلوب، والسيناريوهات باتت مفتوحة بين خيارات أحلاها مر، مثل استدامة النزاع العسكري إلى حين تسديد الضربة الموجعة بالطرف الضعيف وإنهائه، أو الدخول في مرحلة تقسيم البلاد وأهل العباد.
ومرةً أخرى يُصعّد الغرب من وتيرة الخلاف والنزاع مع بعضه البعض في الملف السوري، ويتسابق من أجل تحصيل إنجاز هناك، بينما العرب لا يفعلون شيئاً سوى مشاهدة الأجنبي يتدخل في الأرض العربية ويفعل فيها ما يشاء.