قرار حكومة السلطة الفلسطينية اقتطاع أربعين في المئة من رواتب موظفي قطاع غزة، فضيحة بالمعنيين السياسي والمعيشي. الحديث هنا عن أزمة مالية خانقة تعيشها السلطة لا مكان له حين يتعلق قرار الاقتطاع بجغرافيا محددة كانت ولا تزال عنوان الانقسام الفلسطيني وساحته الجغرافية، والذين أصدروا القرار لم يلتفتوا إلى ما يعنيه من نظر إلى مواطني قطاع غزة باعتبارهم فائضاً ثانوياً يقبع في الدرجة الثانية في تراتبية اجتماعية بائسة تفتح الباب لرياح التفرقة وتعميق الانقسام وتغذيته بقوانين ووقائع تعتبر شاذة وغريبة عن أي منطق وطني مهما حاول البعض تفسير دوافع قرار كهذا أو ربطه بأسباب اقتصادية ما مهما تكن حقيقتها ووجاهتها.
أول ما يحمله القرار من شرور أنه يرمي ثقل الضائقة المالية كله على كاهل موظفي قطاع غزة وحدهم مع ما يعنيه هذا من سقوط لا أخلاقي في مستنقع آسن من التفريق بين أبناء الشعب الواحد وزجهم في متاهة تعارضات بل تناقضات مفتعلة وبالغة البؤس عنوانها الفاقع التخلي عن قطاع غزة ومواطنيه وبيعهم مجاناً ودون منطق لسلطة الأمر الواقع الشاذة والمرذولة التي تديرها منفردة حركة «حماس الإخوانية». هو بمعنى آخر تناغم مع واقع انقلاب «حماس» الذي اختطف القطاع وأهله ويشبه واقعياً اعترافاً أو بداية اعتراف بحق «حماس» في إدارة قطاع غزة وتقرير مصيره كما تشاء.
قرار يحمل كل هذه الأبعاد لا يمكن ولا يجوز النظر إليه أو تفسيره باعتباره قراراً مالياً واقتصادياً وحسب، لأن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحال، والذي يحضر اليوم في جدالات الفلسطينيين جميعاً: لماذا لم يشمل موظفي الضفة الغربية وهم أيضاً يشكلون برواتبهم عبئاً على موازنة السلطة الفلسطينية التي تعيش ضائقة قاسية؟
أول هذا بمعزل مقصود ومتعمد عن كل الحيثيات التي يمكن أن تسوقها قيادة السلطة ومسؤولوها التنفيذيون عن ظروف توظيف من شملهم القرار فالأصل والأهم في رأيي هو الواقع المعيشي لآلاف العائلات الفلسطينية التي فاجأ القرار عوزها وحاجتها وقذف بها في جحيم اليأس. كم هي مؤسفة ومحزنة مشاهد الموظفين عند الصرافات الآلية وقد وقع بعضهم في الشارع بصدمات أودت بحياة أحدهم بالسكتة القلبية فيما أغمي على العشرات منهم، خصوصاً أن واقعهم المعيشي القاسي كان ولا يزال يحتاج إلى معالجة حقيقية تقوم على رفع رواتبهم لا تخفيضها أو اقتطاع ما يصل إلى أربعين في المئة منها.
نعم، هناك ضائقة مالية تعيشها السلطة وتحتاج إلى حلول على المستويين الإسعافي العاجل والحقيقي المبرمج، لكنها حلول تقتضي أن تأخذ في اعتبارها هدفاً بالغ الأهمية هو التقليل من امتيازات من يتمتعون بالامتيازات من أصحاب الوظائف العليا وليس إلقاء عبء الأزمة على الفئات الدنيا البائسة، والتي تحتاج إلى تأمين الأسباب الأولية للعيش.
قرار تعسفي كهذا نعتقد أن معالجة آثامه وضرره تستوجب إلغاءه كلياً وليس أقل من ذك وترحيل حكومة رامي الحمدالله التي أصدرته فهو ليس مجرد قرار خاطئ فنياً، بل يحمل ذهنية لا تليق بالحالة الوطنية الفلسطينية وتنزع عن أصحابها أهلية القيادة، وفي المقام الأول منها الالتزام بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني على المستويين الوطني والمعيشي معاً.
يسأل المواطنون الفلسطينيون اليوم: هل يمكن أحداً أن يقتنع بأن حكومة تعادي جناحاً من الوطن مؤهلة لأن تكون «حكومة وفاق وطني» مهمتها الأبرز استعادة الوحدة؟
عن الحياة اللندنية