قبل أيام، صدمتني «تايم» الأميركية (عدد 3-4-2017) إذ زعق غلافها بالسؤال: «هل ماتت الحقيقة»؟ اتشح الغلاف بالأسود، لم يفسح المصمم المجال لصورة أو رسم، فاحتل عنوانٌ أحمر كامل الصفحة، والقصد واضح: لون الدم يرمز لاغتيال الحقيقة. أعترف أن رد الفعل الأولي من جانبي كان همهمة تجيب بنعم، لقد ماتت منذ زمن سحيق. لكنني، بعد تفكّر وإعادة نظر، أعدت نظم إجابتي: كلا، مستحيل أن تموت الحقيقة، لأن موتها يعني، ببساطة، الفناء، الأرجح أنها في حالة غيبوبة لكثرة ما يُهال عليها من الزيف. سيدة أسبوعيات العالم الصادرة بالإنجليزية، ليس يضاهي جديتها، في تقديري، سوى دقة «الإيكونومست» اللندنية، قدمت لتحقيقها بالقول إن أجيالاً من أطفال أميركا لُقِنت حكاية مشكوكا في صحتها تزعم أن الطفل جورج واشنطن أقر ذات يوم لوالده بذنب أنه اجتث شجرة كرز من حديقة البيت. مقصد القصة هنا، وفق «تايم»، هو جواز أن تعتمد الثقافة السائدة حتى الخرافة، لأجل تعليم الطفل أهمية مَثلٍ أعلى يتمثل بقول الصدق. ليس المجال هنا للدخول في جدال مع منطق «تايم». إنما من حقائق زمن ثورة الاتصالات تدفق المعلومات بكمٍ هائل بات خبراء التحليل والتدقيق عاجزين، أمام حجمه، عن سرعة فرز الصحيح من الزائف.
عامل مهم وخطير في الآن نفسه، تحدث عنه سير ماكس هيستينغز، الصحافي الكبير، في حديث تضمن إضاءات مِهنية قيّمة، أجرته رنيم حنوش، الصحافية الشابة المنتمية لجيل واعد من الصحافيات والصحافيين العرب، ونشرته «الشرق الأوسط» أول من أمس (الاثنين). مجيباً عن سؤال عن المناخ الإعلامي اليوم، وما إذا كانت الجودة تدنت مع ازدياد المطبوعات والقنوات، أشار رئيس تحرير «ديلي تلغراف» الأسبق، إلى صحافي بريطاني (تمنيت لو أسعفته الذاكرة فذكر اسمه) قائلاً إنه «كتب في عام 1968 حول تغطية الأخبار آنذاك، وقال إن هنالك كماً هائلاً من المعلومات مقابل نسبة قليلة من المعرفة. وهذه الجملة كانت صحيحة في حينها، وأكثر صحة اليوم».
مقولة ذلك الصحافي المجهول، زمنذاك، تبدو الآن كأنها كانت تستشف المستقبل. حقاً، بقدر ما أسهم تسارع تطور أدوات التواصل في تقريب المسافات بين البشر، قدر ما أسهم كذلك في التلاعب بالحقائق. ها هي دول العالم أجمع، تقريبا، ومؤسساته كافة، تعاني أمام انتشار معلومات تضلل الجمهور المتلقي بلمح البرق. ربما، لولا تزايد سرعة نشر ما يضلل الناس خلال العقد الأخير، لما أمكن لمجموعات ضلال الإرهاب وسفك الدماء أن تربح مواقع عدة على أكثر من أرض، ثم تمد ذراع الشر لقتل أناس أبرياء، إن في الجوامع والكنائس أو أسواق وشوارع نيس، لندن، برلين، استوكهولم، وغيرها. صحيح أن الشر، كما الخير، موجود مذ بدأ الوجود، لكن المُفترض أن يمضي مجتمع البشر نحو الأفضل لا أن يرجع للخلف. لقد بات واضحاً أن هدف مَن اخترع «فرانكشتاين المسلم»، وأعطاه اسم «داعش»، ومن قبل «القاعدة»، الحاضنة الأساس، هو تحديداً تحقيق الرجوع بالعالم العربي، وامتداده الإسلامي، قروناً للوراء. لا ضرر من الإقرار أن هذا الشر نجح، حتى الآن، فضرب وأدمى حيث شاء. إنما الضرر في غض النظر عن أسباب النجاح. ولأن الحقيقة النقية بالحق، نقاء الثوب الأبيض من أي دنس، عصية على الموت، سوف تَطهُر الأرض ذات يوم قريب، مهما بدا بعيداً، من «فرانكشتاين» المنتسب زوراً ليس فقط للإسلام، بل للإنسانية جمعاء.
كما استشف صحافي سير ماكس هيستينغز تأثير التدفق الهائل للمعلومات مقابل ندرة المعرفة، على مستقبل الحقيقة، في العام ذاته (1968) صدع الشاعر اللبناني العملاق جورج جُرداق (1933 - 2014) برائعته «هذه ليلتي»، وضمّنها البيت القائل:
وديارٌ كانت قديماً ديارا
سترانا كما نراها قِفارا
هذا شعر يبدو الآن كأنه استشعر المستقبل هو أيضاً، نظمه شاعر مسيحي وضع مجلد «الإمام علي.. صوت العدالة والإنسانية» في خمسة أجزاء، بيعت منها خمسة ملايين نسخة، بالعربية والفارسية والأردية، فهل يعلم جهلاء إرهاب قتل أبرياء عزل من أهل الكتاب قامة مبدع مثل جورج جُرداق وغيره كثيرين؟ كلا، بالطبع. إذنْ، ما قفار هذا الزمن في خضرة الأرض، بل هو في تصّحر قلوب أعماها الضلال حد التحجر، فعجزت عن حب الآخر واحترامه، ديناً وشِرعةً ومنهاجاً وبشراً، وقد كان هذا أحد أهم عوامل ازدهار العرب والمسلمين طوال ماض ليس ببعيد، وإذا أضاعوه اليوم، أضاعوا المستقبل فتضيع معه الديار.
عن الشرق الأوسط