نواجه خطراً داهماً، ويسكن فينا قلق كامن، وكلاهما يغذي الآخر، ويجعل سلوكه مكملاً للثاني، فالخطر الداهم من قبل تطرف تنظيمي "داعش" و"القاعدة" وإرهابهما، يوازيه إجراءات وسياسات المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، على أرض فلسطين لجعلها طاردة لأهلها وشعبها وإفقارهم ودفعهم نحو الرحيل القسري باتجاه الأردن، ما يُعيد مرة أخرى إنتاج المشكلة الفلسطينية وتداعياتها التهجيرية خارج فلسطين، ورميها مرة أخرى إلى الحضن العربي، كما حصل عامي 1948 و1967.
ولذلك ليس ترفاً الاهتمام الأردني العميق والزائد بتفاصيل المشهد الفلسطيني، وهو ليس عبئاً إضافياً تسعى له مؤسسة صنع القرار في عمان بالتوجه نحو الاهتمام بالقضية الفلسطينية وكأن الأردنيين بلا متاعب، والاهتمام ليس تنطحاً من قبل الدولة الأردنية لقضية أشقاء لهم وعليهم الأولوية في الاهتمام بقضيتهم قبل أن يهتم بها أي عربي بما فيهم الأردني، سواء حمل فكراً يسارياً أو قومياً أو دينياً عابراً للحدود، فالاهتمام الأردني ليست دوافعه قومية أو دينية أو إنسانية، بل هو واجب وطني تمليه المصلحة الوطنية العليا لأمن الدولة الأردنية واستقرارها وثباتها، ذلك لأن المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي على الرغم من معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، إلا أنه مازال ممعناً في مواصلة برنامجه الاستعماري التوسعي على أرض فلسطين، ومنها ومن خلالها يستهدف الأردن لأكثر من سبب:
أولاً: لقد نجح قادة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي منذ عام النكبة 1948، في رمي القضية الفلسطينية وأعبائها واستحقاقاتها خارج فلسطين: جزء منه على الأمم المتحدة عبر "الأونروا" والجزء الأكبر على البلدان العربية المجاورة لفلسطين: لبنان، وسورية، والأردن، ومصر. ولمواجهة ذلك ورداً على هذا البرنامج الإسرائيلي استطاع الرئيس الراحل ياسر عرفات وكان هذا آخر إنجاز حققه في نقل الموضوع الفلسطيني من المنفى إلى الوطن باستثناء قضية وحقوق اللاجئين المؤجلة، بعد أن كان عنوان الصراع قبل اتفاق أوسلو صراعاً فلسطينياً أردنياً، وفلسطينياً سورياً، وفلسطينياً لبنانياً، وأقلها صراعاً فلسطينياً عراقياً وفلسطينياً مصرياً.
بعد أوسلو، وإثر عودة القيادة الفلسطينية إلى وطنها وفشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، ترسخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الأرض، داخل الوطن، بين الشعب العربي الفلسطيني من طرف وعدوه من طرف آخر، والشعب الفلسطيني لا عدو له سوى عدو واحد لا ثاني له، هو المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي الذي يحتل أرض الفلسطينيين وينتهك كرامتهم ويُصادر حقوقهم، ولذلك بات الصراع واضحاً ومكشوفاً وجلياً بين المشروعين المتناقضين المتصادمين بين المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي وبين المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني.
وعلى الرغم من التفوق الإسرائيلي بامتلاكه الذاتي لقدرات سياسية واقتصادية وعسكرية وتكنولوجية واستخبارية، ويتلقى الدعم من الطوائف اليهودية المتنفذة في العالم، والإسناد من الولايات المتحدة، ونجاحه في احتلال كل الأرض الفلسطينية، ولكنه فشل لهذا الوقت في طرد كل الشعب الفلسطيني من وطنه؛ إذ يعيش أكثر من ستة ملايين عربي فلسطيني على أرض وطنهم يشكلون عنواناً لفشل البرنامج الاستعماري الصهيوني لتحقيق كامل أغراضه، وهو ما يسبب القلق وعدم الراحة لقياداته العنصرية الاستعمارية، التي تزداد تطرفاً وعنجهية والعمل على استكمال ما يتطلعون إليه، وهو التخلص من العامل الديموغرافي السكاني الفلسطيني، وهو خطر لا يمس مصالح الشعب الفلسطيني وحسب، بل هو الخطر الكامن من وراء البرنامج والمخططات الإسرائيلية الرافضة لأي تسوية على الأرض الفلسطينية تضمن أي حل يحفظ بقاء ما تبقى من الفلسطينيين على أرض وطنهم.
خطر التهجير والطرد والتشرد ليس سهلاً كما كان خلال سنتي النكبة 1948 والنكسة 1967، ولكنه خطر كامن يدفع باتجاه الشعور بالقلق لدى مؤسسات صنع القرار الأردني؛ لأن ما جرى في سورية والعراق واليمن وليبيا، يشكل عنواناً تجريبياً بامتياز كي يستعمله الإسرائيليون في محاولة تكرار ما جرى عامي 48 و67، أسوة بما يجري الآن في سورية والعراق واليمن وليبيا.
لهذا تسعى الدولة الأردنية للحفاظ على بقاء العنوان الفلسطيني على أرض فلسطين، والحفاظ على ما حققه الرئيس الراحل ياسر عرفات في استقرار وبقاء الموضوع الفلسطيني في وطنه ووسط شعبه، وأن تبقى المشكلة الفلسطينية هناك على أرض فلسطين وفي مواجهة عدو فلسطين -المشروع الاستعماري الإسرائيلي، وبالتالي حماية الأردن من محاولات التدفق البشري التهجيري الفلسطيني نحو الأردن، وهذا هو الخطر الأول الكامن خلف السلوك الإسرائيلي الذي يبحث عن ذرائع لإشاعة جو التطرف والإرهاب والفاشية والقتل السهل للشباب وللشابات دون أي رادع فلسطيني أو عربي أو دولي.
والسبب الثاني والذي لا يقل خطورة وإن كان بعيد التحقق وصعب المنال الصهيوني الإسرائيلي، في ظل المعطيات الحالية، ولكنه يفتح بوابة إذا أنجز الهدف الأول المتمثل بالتهجير والتشريد الفلسطيني خارج الوطن، تكون حصيلته المقدمة الضرورية المطلوبة نحو التقدم لتحقيق الهدف الثاني وهو خطر ما يسمى "الوطن البديل" عبر ولادة النظام البديل، للدولة الأردنية من خلال تغيير الطابع الديموغرافي للوطن الأردني عبر جعل الأغلبية الفلسطينية عنواناً وهوية على أرض الأردن، ويتحول الأردن إلى وطن الفلسطينيين، وفق المخططات الصهيونية التي تدعي أن شرق الأردن هو جزء من خارطة إسرائيل، ولذلك لا بأس لو أقام الفلسطينيون دولتهم شرق الأردن وفق الرؤى والمصالح الاستعمارية الصهيونية، وبالتالي على الفلسطينيين أن يرحلوا إلى دولتهم، شرق الأردن.
قد يكون هذا خطراً ضعيفاً، وهذياناً سياسياً، وقلقاً زائداً ولكننا حينما ندقق بتصريحات عدد من الإسرائيليين نجد أن أكثر من وزير عامل إضافة إلى ما كتبه موشيه أرنس وزير الحرب السابق من الليكود، على أن الفلسطينيين يحوزون الآن على دولتين، الأولى في قطاع غزة، والثانية شرق الأردن، ولماذا يتطلعون إلى قيام دولة ثالثة لهم على أرض الضفة الفلسطينية (في يهودا والسامرة، أي على أرض إسرائيل)، وفق ما قاله أرنس، وأورد رقماً قوله: إن الفلسطينيين يشكلون سبعين في المائة من سكان الأردن، فلماذا لا يقيمون دولتهم على أرض الأردن، طالما أن الأردن جزء من أرض إسرائيل، وغالبية سكانه من الفلسطينيين.
نهج وفكر وموقف اليمين الإسرائيلي المتطرف ليس ثقافة مترددة على خطورتها، بل هي فكر ونهج وسلوك مركز صنع القرار السياسي لدى حكومة "تل أبيب"، فلماذا نستهتر ولا نقلق ولا نعمل وفق البرنامج الوطني الأردني وزيادة أفعاله في دعم وإسناد نضال الشعب الفلسطيني على أرضه، وصموده وثباته في وطنه الذي لا وطن له سواه، وبالتالي نحمي الأردن من خطر التهجير والوطن البديل.