متشائمة ومحبطة الأجواء التي تسود الأوضاع الفلسطينية، خاصة في قطاع غزة بعد التهديدات الجدية التي أطلقها الرئيس محمود عباس، وتعكس إصراراً على استرجاع غزة إلى حضن السلطة.
الناس في غزة ينتظرون الإجراءات اللاحقة، بكثير من القلق، وهم على قناعة بأن إجراء خصم الرواتب ليس سوى البداية لإجراءات أشد صعوبة وتأثيراً على حياة الناس اليومية.
تأخر وصول وفد اللجنة المركزية لحركة فتح إلى غزة يثير بدوره القلق، نظراً لضيق الوقت المتاح والذي حدده الرئيس بالخامس والعشرين من الشهر الجاري وإلاّ.
كان عضو اللجنة المركزية لفتح أحمد حلس، قد التقى قيادات من حماس، ووضعهم في صورة الموقف الذي يفترض أن يحمله الوفد السداسي، ما يعني أن تأخر الوفد الفتحاوي ناجم عن غياب رد من قبل حركة حماس.
هذا يعني، أيضاً، أن الوفد قد لا يصل إلى غزة، في حال تبلغ رداً سلبياً، حتى لو كان من خلال الصمت الذي ينطوي على رد سلبي.
لم يعد ثمة حاجة للتشخيص، بشأن دوافع وأسباب وأهداف الرئيس محمود عباس وفي هذا التوقيت بالذات، فبغض النظر عن كل ذلك ثمة قرار حاسم حازم، بضرورة اتخاذ كل الإجراءات الممكنة وأية إجراءات يمكن أن تؤدي إلى استعادة قطاع غزة إلى حضن السلطة مهما بلغ الثمن.
على أن المؤشرات التي تصدر عن الطرفين فتح وحماس، لا تدعو للتفاؤل بشأن إمكانية معالجة ملف الانقسام، من خلال الحوار أو قبول حركة حماس الاندماج في السلطة، وفق رؤية وشروط الرئيس عباس.
على أنني لا أعتقد أن الرئيس يفكر بالطريقة التي عبّر عنها قاضي القضاة، الشيخ محمود الهباش الذي أفتى في خطبة الجمعة الماضية، بأن لدى الرئيس الحق والصلاحية بالتصرف، أسوة بما فعله الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم- بحق "مسجد الضرار".
غريبة هذه الفتوى وغريب استخدام الدين بهذه الطريقة، في تعامل ولي الأمر مع الرعية.
كما أن حركة حماس صعدت من ردودها على الموقف الذي اتخذه الرئيس، حيث أقدم أنصارها على حرق صوره وصور رئيس الحكومة رامي الحمد الله.
على أن ما هو أهم من ذلك، ما ورد من تصريحات على ألسنة قيادات حمساوية عبرت عن رفضها التعامل مع طريقة الرئيس عباس، الذي من وجهة نظرهم يتعامل مع غزة وكأنها "بكسة بندورة" أو "بكسة بطاطا"، وبعضهم هدد بسحب الشرعية عن الرئيس والسلطة.
في الواقع فإن حماس لم تتوقف عن اعتبار الرئيس غير شرعي، وان ولايته قد انتهت منذ سبع سنوات، غير أن ذلك لم يمنع الرئيس من ممارسة صلاحياته كاملة، على اعتبار أن الشرعية ليست فقط قانونا وصندوق اقتراع.
عملياً الشرعيات مضروبة والقانون مضروب، فقد أطاحت عشر سنوات من الانقسام، الذي تم مأسسته، بالقانون الأساسي، وبكل القوانين، ولذلك فإن التهديد بسحب الشرعية لا يعني شيئاً في الواقع.
لا بد إذاً من أن تستشعر حركة حماس مدى خطورة الظروف، وصعوبة الخيارات المطروحة، والبحث عن أفضل هذه الخيارات التي توفر عليها وعلى الشعب الفلسطيني أثماناً وتكاليف باهظة.
لن تنتهي الدنيا، ولن تهلك السياسة الفلسطينية إذا أخذت حماس بخط التعامل الإيجابي مع ما هو مطروح من قبل الرئيس.
يحتاج الظرف إلى الشعور العميق بالمسؤولية الوطنية، وحتى بالمسؤولية الخاصة ونعتقد أن التعامل مع ما يطرحه الرئيس في الإطار الوطني العام، يمكن أن يقدم أفضل المخارج، التي لا تفضي إلى معادلة منتصر ومهزوم.
العناد والرفض، هو الطريق الأكيد، لهزيمة الكل الوطني، ولطرفي الانقسام الفلسطيني فلا أظن أن الرئيس يشعر بالارتياح وهو يتخذ مثل هذه الإجراءات القاسية.
لقد قلنا في زمن سابق إن وقوع واستمرار الانقسام، قد كلف الشعب الفلسطيني وقواه الحية، أثماناً باهظة، فكيف وما هو الثمن المطلوب مقابل استعادة الوحدة الوطنية، كإنجاز كبير للقضية وأهلها.
من الواضح أن الوقت من ذهب، وأن الأمر لا يحتمل المماطلة والتأجيل ولا مجال للمناورات، واللفّ والدوران، ولا نظن أن أي تدخلات خارجية أو داخلية ومبادرات أو اقتراحات يمكن أن تعدل من سياق تطور الأحداث الجارية.
المنطق الذي يطرحه الرئيس يقول: إما أن تحملوا غزة بكل أعبائها، وتتحملوا تبعات ذلك، وإما أن تسلموا غزة بالكامل للسلطة، وتتخلوا عن الحكم.
هذه هي باختصار المعادلة المطروحة والسؤال الأساسي الذي يحتاج إلى إجابة واضحة وصريحة.
حماس مبدئياً أجابت علنياً، وأبدت استعدادها لتسليم السلطة لحكومة الوفاق وتمكينها من العمل وهو مؤشر جيد ولكنه يحتاج إلى العديد من الإجابة عن تفاصيل كثيرة تتعلق برواتب الموظفين، وبقية الخطوات اللاحقة.
بقية الخطوات اللاحقة تتصل بالموقف من حكومة وحدة وطنية على أساس برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، أو تعديل الحكومة الحالية، يتلو ذلك انتخابات تشريعية ورئاسية.
نعلم أن قائمة الاستحقاقات لاستعادة الوحدة تطول أكثر من ذلك، وأن ثمة أسئلة معجّلة وأخرى مؤجّلة، حتى نكون أمام خارطة طريق متكاملة، ولكن ليبدأ الكل من هذه النقاط ثم يتبع ذلك حوار تتيح له الظروف الإيجابية الناشئة لأن يكون إيجابياً وبنّاءً.
أقول ذلك وفي الذهن ما يعلمه الجميع، من أن بعض فصائل منظمة التحرير مثل الجبهتين الشعبية والديمقراطية، تمثل معارضة في إطار المنظمة إذ لم تسقط بعض الفصائل التزامها بهدف تحرير كل فلسطين، ولم توافق على اتفاقية أوسلو ولديها من الانتقادات والملاحظات الكثير على السياسة الرسمية، ولكنها تمارس سياساتها ومواقفها في إطار النظام السياسي.
على حركة حماس أن تجتاز هذه العقبة التاريخية، التي ستمكنها من أن تشكل مع فصائل أخرى معارضة قوية وفاعلة ومؤثرة في إطار النظام السياسي الفلسطيني الموحد.
لا يمكن استمرار الوضع بما هو عليه، حيث سلطتان وبرنامجان وقيادتان، ورأسان لنظام سياسي فلسطيني، يسعى وراء تحقيق أهداف وطنية يتوافق الكل الفلسطيني على حدها الأدنى.
السياسة لا تعرف الثبات، والثابت فيها هو الحركة والتغير، وفي ظل الظروف المحيطة المتحركة والمتغيرة، لا بد من التغيير وفق معادلة "لا تكن ليّناً فتعصر ولا تكن صلباً فتكسر".