يعرف المواطن الجاهل والمتعلم في قطاع غزة الإجابة عن سؤال يتكرر على ألسنة الجميع، ومفاده: إلى أين تتجه الأمور؟ على العكس من ذلك، يترك هذا السؤال لدى من يعتقد من الناس أنهم عارفون ببواطن وظواهر الأشياء، يترك قدراً من الإرباك. لم يكد الناس في غزة يستفيقون من آثار صدمة الخصم من رواتب الموظفين، حتى وجدوا أنفسهم أمام تصريح على لسان مسؤول فلسطيني لم تذكر جريدة الحياة اللندنية اسمه، يقول: إن السلطة تتجه نحو خصم 30% من نفقاتها في قطاع غزة، فيذهب الذهن إلى قطاعي الصحة والتعليم كحد أدنى.
المهلة التي حددها الرئيس انتهت الثلاثاء الماضي، بدون أن يأتي الرد من قبل حركة حماس، بالصيغة التي طرحها أبو مازن، والتي لا تقبل الحوار، ومضيعة الوقت. الصيغة التي طرحها الرئيس تضع حماس أمام معادلة إما الموافقة وإما المزيد من الإجراءات، ولا نظن أنها تذهب إلى ما يعتقده البعض، من أن الخيار هو بين القبول أو فك ارتباط السلطة بغزة.
خلال الأسبوع، جرت لقاءات، وحوارات، يبدو أنها لم تفض إلى شيء أو صيغة مقنعة للرئيس. الناس استبشروا خيراً من تصريح الدكتور صلاح البردويل، الذي أشار فيه إلى موافقة الحركة على تسليم الوزارات والإدارات والمؤسسات والمعابر لحكومة الوفاق، وإلى أن الحركة سلمت جوابها بالموافقة على المبادرة القطرية. لا نعرف ما هي الصيغة التي رست عليها المبادرة القطرية، وكل طرف يدعي أنه ينتظر رد الطرف الآخر عليها. غير أن الثابت المطروح هو الصيغة التي قدمها الرئيس وحملها أعضاء اللجنة المركزية لفتح المتواجدون في غزة لحركة حماس.
يبدو لي أن التصريح الإيجابي الذي أدلى به البردويل، ينطوي على نقص من وجهة نظر الطرف الآخر، فهي إما أنها نعم ولكن، أو انها على طريقة «لا تقربوا الصلاة». لطالما كانت هذه اللاكن تنطوي على شروط تنسف النعم، والأمر متوقع على كل حال. السلطة تريد من حماس تسليم الوزارات والمؤسسات، أي تسليم الحكم بالكامل، وبدون موظفيها، فيما توافق حماس على تسليم الوزارات بموظفيها بالإضافة إلى موظفي السلطة. تخشى حركة حماس من أن ذلك سيؤدي إلى الإلقاء بموظفيها في الشارع، فضلاً عن أن ذلك سيكون مقدمة لفتح ملف السلاح. بصدور خبر التقليصات الجديدة، ستندلع مرة أخرى حملة من التصريحات والتصريحات المضادة، والتي تنطوي على اتهامات وربما شتائم، من شأنها أن تعمق حالة الاحباط التي تسود المجتمع.
لم ينتظر نائب رئيس المجلس التشريعي الدكتور أحمد بحر، الذي استعاد تصريحات سابقة، تقول إن الرئيس غير شرعي دستورياً، وانه يتحمل المسؤولية عما وصفه «بالإجراءات الإجرامية ضد قطاع غزة.»
هكذا يكون قد انقطع الوصل مرة أخرى، وفي الواقع لا قيمة لأية مواقف أو تصريحات تتحدث عن الشرعيات، أو القوانين والحقوق.
هذا هو الواقع، الرئيس رئيس ويمارس مسؤولياته، بغض النظر عمن يرضى، أو لا يرضى، ولديه إمكانيات وازنة ومؤثرة جداً على المجتمع الفلسطيني، وعلى كل الجماعات والتيارات والفصائل السياسية الموالية والمعارضة له.
الحكمة السياسية تقتضي التعامل مع الوقائع الملموسة، وليس مع الأحكام الذاتية، ومن يتجاهل هذه الحقيقة في العمل السياسي، فإنه يقع في إخطاء وخطايا، قد تجر الكثير من الويلات على الناس وعلى نفسه والجهة التي ينتمي إليها.
لو أن السياسة تقوم على الحقوق، والعدالة، لكان الشعب الفلسطيني تحرر من الاحتلال ولكانت إسرائيل أصلاً كمشروع، غير موجودة، ما يعني أن الحق والعدل يحتاج إلى القوة، وأيضاً إلى الحكمة السياسية.
لن يفيد الفلسطينيين في غزة أو في غير غزة، أن يكون الجواب على الإجراءات التي تتخذها السلطة تباعاً، ويبدو أن الحبل على الجرار، لا بالردود الانفعالية، والاتهامات، ولا حتى بالانتظار والصبر.
ولا يفيد في تغيير الأمور، ودرء المخاطر القائمة والمتوقعة كثرة الشكوى وكثير الاحتجاجات، أو الهروب نحو مغامرات غير محسوبة النتائج.
ومن الواضح أنه كلما مضى الطرفان في سياسة العناد، فإن النتائج ستكون اصعب بكثير، وسيكون استدراك الامور أكثر تعقيداً من اليوم، إذ ستبدو الصورة على أنها منتصر ومهزوم، الأمر الذي نستبعد أن توافق عليه حركة حماس.
ومن الواضح أن قطاع غزة بمليونيه قد دخل بقوة إلى نفق مظلم، قد لا يكون بالإمكان الخروج منه، بدون خسائر وأثمان إضافية، فوق ما يعانيه الناس من أزمات ومصائب لا قبل لهم على تحمل المزيد منها. في ظل هذه الظروف الصعبة، تخضع الأطراف الفاعلة لامتحان الإخلاص للشعب والإخلاص للقضية، أما أن يكون الشعب آخر الاهتمامات فإن من الخطأ اختبار صبر الشعب. وإذا كان البعض متأكداً من أن المراهنة على دور مختلف للإدارة الأميركية، لن يقدم للشعب الفلسطيني ما يستجيب لحقوقه، فإن الأولى ان تتبع السياسة خط حماية الجهد الوطني، وادخار هذا الجهد وتوحيده لمواجهة استحقاقات ما بعد اتضاح خطورة السياسة الأميركية.