يوم أمس، أنهى إضراب أسرانا البواسل عن الطعام يومه الثاني عشر، ولا يزال مستمراً قوياً مصمماً ومتصاعداً.
نعم، إن ما يقوم به أسرانا في سجون الاحتلال أبعد من مجرد إضراب عن الطعام يخوضونه لينتزعوا من سلطات الاعتقال مطالب لهم إنسانيةً وعادلة وتقرها لهم جميع المواثيق الدولية. علماً بأن معظم هذه المطالب كان الأسرى قد اكتسبوها كحقوق لهم عبر نضالات سابقة ثم ارتدت عليها وتراجعت عنها سلطات الاعتقال وألغتها.
ان الإضراب، وكما يقول الشعار المرفوع "معركة الحرية والكرامة". وبهذا يتسع مداه وفعله ليكون معركة ضد الاحتلال ودولته ومؤسساته وسياساته الاحتلالية، وضد تنكره الكامل للحقوق الوطنية الفلسطينية ورفضه الاعتراف بها.
ولأن الاحتلال يعي هذه الحقيقة فإنه يتعامل معها على هذا الأساس، وليس كمجرد إضراب عن الطعام ومطالب. وهو يخشى من نتائج الخضوع للمطالب، او حتى بعضها، على نسيج مجتمعه الغارق في يمينيته وعنصريته وعلى قواه السياسية وعلى ائتلافه الحاكم، ثم على صورته ووضعه الدوليين، بالذات في هذا التوقيت.
من هنا تأتي الدعوات النازية من أكثر من مسؤول لشكل وكيفية التعامل مع الإضراب والمضربين.
لقد ظل وجود قضية أسرى ملازماً لوجود الاحتلال، تماماً كما ظل وجود الشهداء والمصابين، ووجود القمع والإرهاب والفاشية والعنصرية، ووجود النضال والمقاومة.
ولقد ظل نضال الأسرى في معتقلاتهم وضد آسريهم وجلاديهم مكوناً أساسياً من مكونات نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، وشكلاً عضوياً من أشكال المقاومة التي يخوضها ضده. وظلت مطالبهم - رغم خصوصيتها المباشرة- مندمجة دائماً مع الأهداف والثوابت الوطنية العامة، بالذات بعد نجاحهم المبكر في بلورة ما أصبح يعرف بالـ "الحركة الأسيرة" وفرضها كحقيقة سياسية ونضالية.
لم يقتصر نضال الأسرى ودورهم على داخل معتقلات الأسر ومطالبهم بحقوقهم فيها، بل امتد الى خارجها مشاركاً فاعلاً في النضال الوطني بشكل عام، (أبرز أمثلة ذلك وثيقة الأسرى التي قدموها لمعالجة الانقسام الفلسطيني وكانت الأنضج والأكثر واقعية وعملية). وامتد ليشمل المشاركة في الحياة الداخلية لتنظيماتهم وفي تقرير مواقفها واختيار قياداتها.
ما يميز هذا الإضراب قيام حركة جماهيرية تسانده بكل قواها وإمكاناتها المعنوية والمادية وبفعاليات متواصلة يومياً تشمل الكل الوطني بكل قواه وأطيافه المنظمة والمجتمعية والشعبية، وتمتد موحّدة على مساحة كل مناطق الوطن وكل التجمعات خارجه وفي كل المهاجر والشتات. بهذا حقق الإضراب وحدة شعبية وفاعلة طال الشوق لها ولم تشهد مثلها ساحات الوطن منذ أيام الانتفاضات وأيام التصدي للحملات العسكرية المعتدية.
وما يميز الإضراب أيضاً، تشكّل ما يمكن اعتباره قيادة جماعية وموحدة يشارك فيها الجميع تقريباً تقود هذه الحالة الجماهيرية: تخطط وتقرر وتنسق فعالياتها المتنوعة.
والشكر في ذلك يذهب إلى وحدة الكل المضرب عن الطعام في المعتقلات الاحتلالية ووحدة قيادتهم ومطالبهم وبرنامجهم، فهم أصحاب الفضل الأول في قيام هذه الحركة الجماهيرية بهذا الشكل.
من المتوقع للإضراب أن تطول مدته في صراع بين إرادة الأسرى البواسل وتمسكهم بمطالبهم، وبين فاشية الاحتلال وسلطاته الاعتقالية ورفضها الاستجابة لها.
وليس مستبعداً كلياً ان يشهد الإضراب مضاعفات صحية لبعض الأسرى المضربين، ولا هو مستبعد، بل متوقع تماما، ان يصعّد الاحتلال وسلطات اعتقاله من إجراءاتهم القمعية والتنكيلية. الأمران سيدفعان الإضراب الى ابعاد اكثر خطورة ولكن اكثر تحدياً وإصراراً. والأمران يفترض ان يدفعا بالحالة الجماهيرية المساندة الى حدود اكثر اتساعا وشمولا وفاعلية، واكثر مسؤولية وتطويرا في وسائلها وأدواتها أيضا، بحيث تبقى متوازية مع مسار حركة الإضراب. ناهيك عما يفرضه ذلك على الحركة السياسية الفلسطينية والعربية من ضرورة ان تتوازى بفعالياتها عبر المؤسسات الرسمية والمجتمعية الدولية مع تطور حركة الإضراب.
الإضراب البطولي والحركة الجماهيرية العارمة المساندة يسمحان بطرح سؤالين:
السؤال الأول، هل يمكن للحركة الجماهيرية المساندة القائمة ان تطوّر نفسها وأوضاعها وأدواتها وتوسع مداها، وتزيد فعلها لتتحول الى انتفاضة شعبية شاملة تحت مسمى انتفاضة الأسرى مثلا؟ خصوصا وان حركة الأسرى ومطالبها مندمجة مع النضال الوطني العام وأهدافه، وخصوصا ان هناك بداية يمكن البناء عليها تتمثل في الحركة الجماهيرية القائمة وفي وجود قيادة موحدة لها تتجاوز، الى حد ما، التنظيمات القائمة، وان هناك جماهير واسعة ومنتشرة تسمع لهذه القيادة وتقبل بقيادتها.
ان قيام انتفاضة شعبية عارمة وشاملة وفي صلبها اضراب الأسرى ومعركة الحرية والكرامة التي يخوضونها، تعطي النضال الوطني الفلسطيني العام زخما وحضورا كبيرين يحتاجهما، وتؤكد فرض الثوابت الوطنية ببعدها النضالي والعميق على كل الاجندات، الشعبية اولا ثم الاقليمية والدولية، وفي مقدمها زوال الاحتلال عن كل الارض الفلسطينية وتحرير الأسرى وإقامة الدولة المستقلة.
والسؤال الثاني، هل يمكن للإضراب والحركة الجماهيرية المساندة له سواء في وضعهما الحالي أو بتطورهما إلى انتفاضة، ان يرميا بثقلهما وتأثيرهما الإيجابي وزخمهما الكبير على كل الواقع النضالي الفلسطيني ونظامه السياسي العام بكل مكوناته الرسمية والتنظيمية والمجتمعية؟
هل ينجحان في الدفع بإخراجه من حال الخلاف والانقسام السياسي والسلطوي الى رحاب الوحدة السياسية والبرنامجية والتنفيذية؟
هل ينجحان في فرض إعادة الدور المغيّب للجماهير الشعبية وتعبيراتها المجتمعية المختلفة والمتنوعة. وهل يعيدان لها فعلها وحقها في فرض إرادتها ورؤاها واختياراتها على كل مسار ومكونات النظام السياسي العام وهيئات المجتمع المدني بشكل ديمقراطي؟
هل السؤالان موضوعيان تولّدهما حركة الجماهير المجيدة حول إضراب الأسرى البطولي؟ أم هما آمال متفائلين سرعان ما تذروها رياح الانقسام وترجماته؟
إضراب عام في إسبانيا ضد حرب الإبادة في فلسطين
27 سبتمبر 2024