كل المؤشرات تقول إن هذا الصيف سيكون ساخنا، بل وحارا، فيما يخص الملف الفلسطيني/الإسرائيلي، فما أن بدأ فصل الربيع، حتى كانت النخبة الأثيرة لدى قلوب وعقول الفلسطينيين جميعا - نخبة الأسرى والمعتقلين - تعلن الإضراب المفتوح عن الطعام، والذي هو أمضى وآخر سلاح يمتلكه المعتقل في مواجهة سجّانه، لتعيد الاعتبار بذلك إلى المواجهة المباشرة والاشتباك الساخن مع الاحتلال، بعد بضع سنوات من "الهدوء" على جبهة مقاومة الاحتلال، لم تنجح هبة القدس أو انتفاضة السكاكين الشبابية قبل عام ونصف العام في فتحها على مصراعيها، لأسباب عديدة، ثم ما أن جلس الرئيس الأميركي دونالد ترامب على المقعد الرئاسي في البيت الأبيض، حتى بدأ يراجع حساباته تجاه الملف الفلسطيني/الإسرائيلي، وبعد أن منّى النفس اليمين الإسرائيلي المتطرف بأن يطوي الرئيس الأميركي الخامس والأربعون صفحة فلسطين من أجندته السياسية، ها هي فلسطين تتمنع على الطي أو النسيان، وهي التي تفرض نفسها على رئيس أقوى وأهم دولة في العالم.
ورغم الانقسام المقيت، ورغم أن حركة حماس ما زالت ومنذ عشر سنوات مضت، لا تتحلى بالمسؤولية الوطنية الكافية لتجعلها تقدم بالتي هي أحسن على إنهاء الانقسام وتوحيد جهود وكفاح الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، إلا أن الشعب الفلسطيني الخبير في الكفاح الوطني وفي مقارعة أسوأ احتلال على وجه الأرض، يمتلك في جعبته كل أشكال الإبداع في مواجهة الاحتلال، ورغم أن إنهاء الانقسام مهمة وطنية، نظراً إلى أن أصابع إسرائيل تلعب منذ البداية بهذا الملف ولا تريد لنا أن ننهيه، فإن شعبنا سيعرف حين يشتد عليه الأمر، كيف يجد الحل الإبداعي لإغلاق هذا الملف، وجمع الحشود مجدداً على طريق كنس الاحتلال.
رغم الانقسام، نقول، إن الشعب الفلسطيني توحد ميدانيا وراء إضراب الكرامة، واصطف كرجل واحد وراء قيادته الأسيرة، معلنا أن الشعب كله تواق للانعتاق من أسر الاحتلال الإسرائيلي الذي يكبل الجميع، وقد جعل من يوم غد - الأربعاء، يوما للنفير الوطني، حيث من المتوقع أن تخرج فلسطين، كلها على بكرة أبيها، تهتف ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد السجّان الإسرائيلي.
وبعد نحو أسبوعين على بدء الإضراب الوطني، ها هو السجان يبدأ "مفاوضاته" التي لا بد أن تنتهي بهزيمته وإقراره بمطالب المعتقلين، فمواجهة المعتقل الإداري مع السجّان الإسرائيلي، قد سجّلت انتصارات عديدة خلال السنوات الماضية، رغم أن عددا من المعارك جرى بشكل فردي، فما بالنا اليوم ونحن إزاء معركة جماعية يخوضها أكثر من ربع المعتقلين الستة آلاف ونصف الألف، والذين يتقدمهم القائد الوطني مروان البرغوثي يرافقه القائد الوطني أحمد سعدات.
قلما اجتمعت فلسطين وشعبها في الداخل والخارج، في يوم كما سيحدث غدا، والمؤشرات تقول، إنه خلال الأسبوعين الماضيين، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي حراكا فلسطينيا وعربيا وصلت أصداؤه للنخب الرسمية ولعدد من الأوساط العالمية، وما زالت المعركة في بدايتها، لذا فان إسرائيل تدرك أن مواصلة هذه المعركة قد تضعها، رغم الظروف الإقليمية، في موقع صعب، أو على الأقل مختلف عما اعتادت عليه خلال السنوات القليلة الماضية.
ومن الواضح أن تحديد يوم الثالث من أيار يوماً للنفير الوطني نصرة وتضامنا، بل وانخراطا في معركة "المي والملح"، معركة الأمعاء الخاوية، من قبل كل الشعب الفلسطيني، كان بهدف التوافق مع اليوم الذي يلتقي فيه الرئيس محمود عباس مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في واشنطن للبحث في كل تفاصيل وبنود الملف الفلسطيني/الإسرائيلي.
صحيح أن الرئيس عباس سيكون آخر قادة المنطقة الذين التقاهم ترامب، بعد بنيامين نتنياهو، الملك عبد الله الثاني، الرئيس عبد الفتاح السيسي والأمير محمد بن سلمان وحتى حيدر العبادي، لكن اللقاء يعتبر مهما جدا، من هذه الزاوية لسببين على الأقل، أولهما: أنه يأتي قبل زيارة معلنة للرئيس الأميركي للمنطقة، من المتوقع أن يعلن خلالها عن خطته لجمع حلفائه في المنطقة في مواجهة معاركه الإقليمية التي من المتوقع أن يشنّها على أكثر من طرف وفي أكثر من اتجاه، وثانيهما، أن ختام اللقاءات مسك، فإضافة إلى أن اللقاء يضع خاتمة لما قيل إن الرئيس الأميركي سيتّبع - على عكس خلفه - سياسة التجاهل والإهمال للطرف الفلسطيني، ما يعني طي صفحته وتولية شؤون الشعب الفلسطيني للأطراف الإقليمية، فإن اللقاء جاء بعد القمة العربية في الأردن، وبعد أن وضع الملك الأردني ترامب في صورة ما يمكن للعرب أن يقدموه مقابل اتفاق سلام فلسطيني/إسرائيلي.
الرئيس الفلسطيني، من المتوقع أن يقدم أفكارا بنّاءة وإيجابية للرئيس الأميركي، فيما يخص الحل السياسي، الذي أعلن ترامب أنه يعتقد بإمكانية التوصل إليه في ولايته، وعلى عكس نتنياهو الذي كان سلبيا، سيحاول الرئيس الفلسطيني مستذكرا خبرته في أوسلو قبل ربع قرن، أن يجد في ترامب شريكا جديداً للسلام، لم يجده في الجانب الإسرائيلي.
سيحاول عباس أن يقنع ترامب بأن حل الدولتين هو أفضل حل ممكن للجانبين، مع مرونة في تفاصيل هذا الحل تأخذ بعين الاعتبار مخاوف وتطلعات الجانبين، وأن الحل لابد أن يكون مقبولاً على الطرفين، لكن مع تدخل دولي وإقليمي إيجابي يضع حداً لعدم استعداد أحد الطرفين للتوصل لحل منطقي ومقبول، بل وحتى متوافق مع ما سبق لهما وأن اتفقا عليه، سيقدم الرئيس عباس - بتقديرنا - كل مرونة سياسية ممكنة، تقنع الرئيس ترامب بجدية الجانب الفلسطيني في التوصل للحل الوسط التاريخي، يتوافق مع مصلحة إسرائيل، ولكن ليس مع مصلحة اليمين المتطرف فيها، ومن ضمن ذلك إضفاء أجواء الثقة بإطلاق سراح المعتقلين، ثم يعود ليظهر حصاد اللقاء عبر زيارة ترامب للمنطقة بعد أسابيع قادمة.