دعونا نبدأ من المدة التي استغرقتها الورقة أو الوثيقة وهي أربع سنوات، كما جاء في حفل إطلاقها.
ليس مستغرباً أن تأخذ الوثيقة هذا الوقت الطويل لأن الأهداف التي توختها صعبة وشائكة ومتعددة، إن كان على صعيد الرسائل المنوي إيصالها أو الجهات التي يفترض أن تتسلمها.
على هذا المستوى يمكن قراءة الوثيقة على النحو التالي:
أولاً: هناك انتقالة وهناك تعديلات وتحديثات كثيرة وكبيرة على الوثيقة بالمقارنة مع «الميثاق» وما يعني ذلك من تجديد في الخطاب والبحث عن الصياغات التي ترضي أنصار التجديد من جهة وأنصار الخطاب المتشدد القديم من جهة أخرى.
ثانيا: عمدت الوثيقة إلى نصوص تحمل الشيء ونقيضه، تقول ولا تقول، وأبقت الباب مفتوحاً أحياناً، وموارباً أحياناً أخرى، بكل ما يعني هذا الأمر من تدقيق في اللغة وفي المحتوى ومن خطاب يحمل أوجها متعددة وينطوي على ما أسميه «بالوضوح الغامض والغموض الواضح»، وهذه المسألة برمتها تحتاج ليس فقط إلى الوقت، وإنما تحتاج إلى حذرٍ شديد. وهذا كله يتعلق بالداخل الحمساوي.
ثالثاً: أما فيما يتعلق بالداخل الفلسطيني فإن تحديثات هامة قد جاءت فيها لكي تضفي على حركة حماس طابعاً اعتدالياً، وخصوصاً في مسألة (تدمير إسرائيل)، والتفريق بين اليهودية والصهيونية وذلك في محاولة للنأي بنفسها (أي حركة حماس) عن التطرف الإسلاموي وعن الخطاب الذي يحشر القضية الفلسطينية في بعدها الديني كبعدٍ أساسي ووحيد في غالب الأحوال.
كما احتوت الوثيقة على «تنصل» ما، وفكاك معين عن الحركة الأم، أي عن حركة الإخوان المسلمين، بل وذهبت الوثيقة إلى أبعد من ذلك عندما أفردت لاستقلال القرار الفلسطيني ولأخطار «الارتهان» إلى الأطراف الخارجية بنداً خاصاً، وإن كانت حركة حماس من أولى الحركات التي يجب أن تساءَل على هذا الصعيد بالذات. إلاّ أن إيراد هذه النصوص تحديداً هو تعبير عن مدى إدراك الحركة للخطورة التي تنطوي على هذا الأمر.
لكن أهم ما جاء في الوثيقة على هذا الصعيد هو القبول بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران.
ومع أن هذا الأمر ليس بجديد إلاّ أن تثبيته بصورة رسمية في هذه الوثيقة يعتبر بكل المقاييس جديداً وهاماً للغاية.
هنا أوقعت حركة حماس نفسها في مأزق كبير، فهي من جهة اعتبرت هذا القبول بمثابة موقف للتوافق الوطني، ومن جهة أخرى أكدت في عدة صياغات على الموقف السابق على «التحرير» من النهر إلى البحر في صياغات متناقضة ومرتبكة ومشوشة.
ومع أن الاعتراف بإسرائيل ليس مطلوباً من الحركة، ولا يجب أن ولا يجوز أن يطلب منها ذلك، إلاّ أن حماس حاولت أن تربط ما بين القبول بالدولة الفلسطينية وعدم الاعتراف.
الحقيقة أن هذا الربط لا يحل المشكلة ولا يؤدي الغرض. فحركة فتح والجبهة الشعبية وكذلك الديمقراطية على سبيل المثال كفصائل وأحزاب لا تعترف بإسرائيل، وليس مطلوباً أن تعترف بإسرائيل، وفي الحالة الفلسطينية الاعتراف هو ضمني وذلك من خلال قبول برنامج الإجماع الوطني الذي أقر في العام 1988.
بما أن حركة حماس تعتبر قبول قيام الدولة على حدود الرابع من حزيران هي مسألة للتوافق الوطني فإن هذا يعني ضمنياً القبول الضمني بكل استحقاقات هذا البرنامج بما فيها الاعتراف بإسرائيل.
وعند درجة معينة من التوافق الوطني بين حماس وفصائل المنظمة يصبح كل ما ورد حول النهر والبحر وعدم الاعتراف لغواً ليس إلاّ.
في نفس السياق الموجّه إلى الداخل الفلسطيني تعمّدت الوثيقة الحديث عن منظمة التحرير الفلسطينية كاطار وطني جامع دون الاقرار بصفتها السياسية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، كما عاودت التأكيد على إعادة بناء المنظمة على أسس ديمقراطية.
جوهر هذا الأمر هو مأزق سياسي كبير لحركة حماس، ذلك أن الحركة في الواقع تربط ما بين الصفة السياسية للمنظمة ودخول حركة حماس إليها وإعادة بنائها.
لو كانت الأمور بهذا الشكل الذي تراه حماس لما كان هناك أصلاً شيء اسمه منظمة التحرير الفلسطينية. فمطلب إصلاح المنظمة وإعادة بنائها ودمقرطة مؤسساتها ليس اكتشافاً لحركة حماس، وهذا المطلب بالذات مطروح على جدول الأعمال مند عدة عقود ويعود الفضل فيه لفصائل اليسار الفلسطيني مجتمعة ومنفردة، وهو موضع أخذ ورد على مدى عدة سنوات.
لم تربط الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب الصفة التمثيلية للمنظمة بهذه المطالب، وهذه الفصائل وكل الفصائل الوطنية تدافع عن التمثيل الشرعي والوحيد على الرغم من اختلافها حول إصلاح المنظمة وإصلاح مؤسساتها وديمقراطية نهجها وممارساتها.
قيمة التمثيل هي الأعلى والأهم وليس الاطار، وقيمة الاطار هي قيمة حقيقية بقدر ما للمنظمة من صفة تمثيلية، ومحاولة الانتقاص من الصفة التمثيلية هو مؤشر على حقيقة الاستهداف من هذه الوثيقة.
والآن، وفي ضوء ذلك كله فهل نحن أمام فرصة للتوافق الوطني أم اننا أمام قنابل دخانية للعبور إلى جسر آخر؟
وهل جاءت هذه الوثيقة تعبيراً عن مراجعة صادقة لمواجهة التحديات أم انها محاولة لفك الحصار عن الحركة ولتقديم نفسها إلى الأطراف كافة كبديل قادر على المزاحمة والتنافس على تمثيل ما يمكن تمثيله؟
هل نحن أمام محاولة لدخول المنظمة بشروط أفضل أم نحن أمام محاولة لهدم المنظمة والانفصال الحقيقي عن الجسد الوطني؟
ثم هل نحن أمام محاولة تشويش على النجاح الفلسطيني في القمة العربية وعلى زيارة الرئيس للبيت الأبيض؟!
هل جاءت الوثيقة نتيجة الضغوط التي مارستها عليها كل من قطر وتركيا لإعادة تسويق الحركة للغرب ولبعض العرب، أم ان تراجع الدعم منهما هو الذي أجبر حركة حماس على هذه الوثيقة؟
كل المؤشرات تقول إن حركة حماس ماضية في مشروع الانفصال، وهي ليست بوارد المراجعة الجادة والصادقة، تشكيل الهيئة القيادية لم يكن صدفة، والمؤتمرات التي عقدتها في الخارج ليست إلاّ جزءاً من هذا التوجه، والطريقة التي تسلكها حركة حماس في التعبير عن مواقفها من مبادرة الرئيس الأخيرة كلها تدل على أن الهدف أو الأهداف الحقيقية منها هو التغطية على التوجهات الانفصالية، مع أن هذا الخيار هو خيار بائس وساقط قبل أن يبدأ.
هناك بعض المؤشرات المناقضة لهذه التوجهات لكن هذه المؤشرات ما زالت ضعيفة والكل الوطني لا يساعد على انتعاشها بعد.
وفي كل الأحوال هذه مرحلة جديدة تدخلها حركة حماس. وفي كل الأحوال، أيضاً، فإن هناك داخلها من يرى أخطار الانقسام وأهوال الانفصال، وهو تيار موجود وحقيقي وطني ومخلص وهو لن يتمكن من استثمار هذه الوثيقة لإعادة بناء النظام السياسي على أسس راسخة وديمقراطية بدون مد يد المساعدة والعون والتحفيز من قبل كل الفصائل الوطنية ومن قبل كل الهيئات الوطنية.
وعلى العموم ما دامت حركة حماس تريد أن تسبح فعليها أن تعرف بأنها ستبتل حتماً.