وثيقة "حماس": من المقاومة إلى الحرب الأهلية

Lebanese-media-Nadeem-Qutaish.jpg
حجم الخط

 

بارتباك وتعرج شديدين تسلك حماس دربها خارج شروط النشأة وظروفها. نزولها عن شجرة الآيديولوجيا، ككل نزول مشابه، محفوف بالكثير من التناقض واللغو. تفجير لغم الآيديولوجيا عملية حساسة. اللغم الآيديولوجي عنقودي بطبيعته وبعض ما يُفكك منه لا يضمن النجاح في تفكيك البقية. هذا تماماً ما تواجهه حماس في داخلها، بين تياراتها الفرعية، وعسكرها، ومع أطراف خارجيين فلسطينيين وعرب ودوليين، لا يثقون بحماس وبدوافعها وبمراميها.
حماس «الجديدة» إذا صح التعبير والتي قدمت نفسها عبر «وثيقة سياسية» ليست بديلاً عن حماس «القديمة» التي عاشت في كنف «ميثاق» التأسيس عام 1988. فنحن الآن بإزاء حماسين، تتجاوران، وبين «وثيقة سياسية» و«ميثاق»، لا تلغي الأولى الثاني، ولا يتيح الثاني للأولى أن تتحول إلى سياسات عملية وقرارات.
في الوثيقة السياسية الجديدة حماس ليست جزءاً من حراك الإسلام السياسي بل حركة تحرر وطني إسلامية، أي أن صراعها صراع سياسي مع القومية الصهيونية وليس عقائدياً دينياً مع اليهود. وهي لا تستظل بعباءة الإخوان المسلمين، لكنها لا تحدد طبيعة علاقتها السياسية بالتنظيم. وهي تقبل بدولة فلسطينية في حدود خط الرابع من يونيو (حزيران) 1967، من دون الاعتراف بإسرائيل، لكن من دون أن توضح مع من ستتفاوض غير إسرائيل، لترسيم هذه الحدود!
كل هذه التناقضات، لا يستقيم تحول من دونها، وهي تحسب لتموضع حماس الجديد بقدر ما يحسبه المتشككون عليها.
الأهم أن الوثيقة السياسية الجديدة، ثمرة مسار «تطبيعي» طويل بين حماس وواقع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتحولاته منذ أوسلو.
الحقيقة أنها ليست المرة الأولى التي تتأقلم فيها حماس مع عنوان «الرابع من يونيو 1967» بوصفه الأساس الذي ينهض عليه التصور الدولي والعربي والإسلامي لحل الدولتين وإنهاء الصراع. قد سبق لمؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين أن بدأ يقترح منذ عام 1997 هدنة طويلة، مقابل دولة فلسطينية على حدود يونيو 1967، مؤكداً على هذا التصور مراراً، حتى اغتياله عام 2004.
وبعد انتخاب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2008 أعاد رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل التأكيد على تصور الشيخ ياسين، وهو هدنة طويلة مع إسرائيل، في مقابل انسحابها إلى خط الرابع من يونيو.
كل هذا ليس مهماً.
واحدة من أزمات حماس الرئيسية، التي تطال شرعيتها كحركة مقاومة، تكمن في براغماتيتها حيال الصراع مع «العدو الأساسي» أي إسرائيل، وراديكاليتها في الصراع الأهلي الداخلي لا سيما مع حركة فتح. وهذه بالمناسبة سمة عامة لحركات المقاومة لم يشذ عنها حتى «حزب الله»، الذي يبدي رباطة جأش هائلة تجاه الضربات الإسرائيلية المؤلمة، في الوقت الذي يصلي «أعداء الداخل» في سوريا ولبنان واليمن والعراق والخليج أقصى ما استطاع من قوة.
كان لافتاً مثلاً أن الخطاب الأخير لأمين عام «حزب الله» حسن نصر الله والذي تميز باحتفالية جوفاء بإضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام، لم يتطرق بكلمة لضربة التوماهوك الأميركية لسوريا، ولا للغارة الإسرائيلية الأخيرة على مواقع للحزب تحوي أسلحة وصواريخ واصلة إليه من إيران.
في الحالتين، أي بإزاء وثيقة حماس الجديدة، وخطاب «حزب الله»، تغيب إسرائيل كعدو مركزي عملي لصالح انخراط التنظيمين، وإن بتفاوت في الاقتتال الأهلي الداخلي.
ففي غزة شنت الأجهزة الأمنية التابعة لحماس خلال الأسابيع القليلة الماضية حملة اعتقالات كبيرة ضد فلسطينيين، تتهمهم بالتعاون مع إسرائيل، معظمهم قيادات وكوادر حركة فتح.
وفي إشارة إلى أولوية الصراع الداخلي في عقل حماس على الصراع مع إسرائيل، قال القيادي في الحركة سامي أبو زهري إن المواقف التي أدلى بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس في المؤتمر الصحافي مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا تلزم أحداً، وإن أحداً «لم يفوضه بتمثيل الشعب الفلسطيني».
واحدة من المفارقات أن حماس لم تنشأ أصلاً إلا كرد فعل على مسار السلام الذي مشاه الراحل ياسر عرفات، وافتتحه عبر اتفاق أوسلو وعملية السلام المستمرة منذ ثلاثين عاماً. وهي إذ تتخفف الآن من شروط النشأة هذه، وتتموضع تحت سقف أوسلو، أياً كانت اعتباراتها أو تبريراتها التفصيلية، يُخشى أن تزداد شهيتها للمضي في الصراع الفلسطيني الداخلي للاستحواذ على منظمة التحرير الفلسطينية.
سبق لـ«حزب الله» أن عبر من حرب يوليو (تموز) 2006 المدمرة مع إسرائيل إلى إعلان وثيقة سياسية عام 2009، ماراً كما حماس باشتباك أهلي داخلي مستمر حتى الآن. في وثيقته تلك حدد دوره في مواجهة إسرائيل بقواعد دفاعية وليست هجومية تحريرية، تماماً كما تراجعت حماس عن دورها التحريري «من النهر إلى البحر» إلى دور «دفاعي» عن دولة ضمن حدود 4 يونيو 1967. وفي الحالتين، «حزب الله» وحماس، كان التطور الوثائقي تأقلماً اضطرارياً مع شروط الحرب الأهلية وليس شروط الصراع مع إسرائيل. أمام حماس فرصة أن لا تسير في الخط المتوقع من التحرير إلى الحرب الأهلية. هنا مربط الشجاعة. أما الاحتفال «باعترافها» بخط 4 يونيو ككناية عن اعترافها بإسرائيل فهو نكتة سمجة.
الاعتراف بإسرائيل ليس خياراً. السلم الأهلي الوطني الفلسطيني هو الخيار.

عن الشرق الأوسط