أصبحت مدينة " تدمُر" في خطر كبير جراء المعارك بين مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية والقوات السورية الحكومية في محيط ذلك الموقع الأثري. ويجدر بنا التنبيه إلى ما تمثله خسارة هذا الموقع الذي يتمتع بأهمية تاريخية كبيرة وأطلق عليه اسم "فينيسا الرمال" وما الذي ستعنيه للتراث الثقافي العالمي؟
وتدمُر هي آخر موقع يمكن للمرء أن يجد فيه غابة من الأعمدة والأقواس الحجرية وسط الصحراء.
وكان الرحالة في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين عادة يذهلون عندما يرون تلك المساحة الواسعة من الخرائب الأثرية وسط الصحراء السورية، التي تقع تقريبا في منتصف الطريق بين ساحل البحر المتوسط ووادي نهر الفرات.
على أن السبب الرئيسي وراء إزدهار الموقع سيتوضح بسرعة للزائر وهو أن مدينة تدمر الأثرية تقع على حافة واحة زاهرة باشجار النخيل والحدائق.
وكانت تدمُر محطة للراحة والسقيا في طريق رحلات التجارة بين الشرق والغرب، وهنا بدأت قصة (بالميرا) اسمها في اللغة اللاتينية، وهو الاسم الذي يُطلق على نوع من التمور الذي ما زال ينتشر في المنطقة حتى اليوم.(أما أصل اسمها في اللغات السامية، تدمُر، فأقل تحديدا).
واحتلت تلك المدينة مكانة بارزة في تاريخ الشرق الأوسط على الرغم من موقعها المنعزل.
بدأت تدمر في الازدهار تدريجيا بعد بدايات متواضعة في القرن الأول قبل الميلاد لتبلغ أوج شهرتها في مرحلة الامبراطورية الرومانية في القرن الثالث الميلادي، عندما تحدى حكامها سلطة روما وأنشأوا امبراطورية خاصة بهم امتدت من تركيا إلى مصر.
المعروف أن المدينة شهدت قصة الملكة زنوبيا التي حاربت الإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور أورليان، ولكن المعلومة الأقل انتشارا هي أن مملكة تدمُر حاربت أيضا أمبراطورية أخرى هي امبراطورية الساسانيين الفرس.
وفي منتصف القرن الثالث الميلادي عندما غزا الساسانيون الإمبراطورية الرومانية وأسروا الإمبراطور فاليريان، قاتلهم التدمُريون وهزموهم، وأعادوهم على اعقابهم إلى ما وراء نهر الفرات.
وعلى مدار عقود، اعتمدت روما على سلطة التدمريين لدعم نفوذها المتراجع في الشرق.
مزايا فريدة
كانت تدمُر انجازا شرق أوسطيا عظيما، ولم تكن تشبه أي مدينة أخرى في الإمبراطورية الرومانية.
لقد كانت متفردة تماما ثقافيا وفنيا. ففي الوقت الذي كانت فيه نخبة ملاك الأرض هي من يسير الأمور في المدن الأخرى، كانت طبقة التجار هي المهيمنة على الحياة السياسية في تدمُر، وتخصص التدمريون في حماية قوافل التجارة التي تقطع الصحراء.
وشكلت تدمُر، مثل فينيسا (البندقية)، مركزا لشبكة تجارية واسعة، الا أن بحرها كان من رمال الصحراء وسفنها من الإبل.
ومع ذلك، كشف علماء الآثار عن أن أهل المدينة لم يكونوا بعيدين عن البحر و(فنون الإبحار).
كان التدمريون يسافرون عبر نهر الفرات إلى الخليج ليتواصلوا مع التجارة البحرية القادمة من الهند، بل وأداموا لهم حضورا في موانيء البحر الأحمر المصرية.
وكان التدمريون يستثمرون الثروات التي يحصدونها من تجارة البضائع المثيرة من الشرق، في مشروعات معمارية في مدينتهم.
ومن الاثار التي حفظت الى يومنا من هذه الصروح التي بنوها، المعبد الكبير للالهة التدمريين، والذي يعرف بشكل عام بمعبد "بل"، وهو عبارة عن شارع محفوف بالأعمدة الحجرية الضخمة ومسرح على الطراز الروماني، ما زال قائما حتى يومنا هذا.
تهديد تاريخي
وكشف ما اظهرنه التنقيبات الآثارية في المدينة عن ثقافة شرق أوسطية نابضة في الحياة لها شعورها المميز بالهوية.
وكان التدمريون يفخرون بتزيين مبانيهم بنقوش تذكارية تكتب بلغتهم السامية، بدلا من الاعتماد على الإغريقية أو اللاتينية، (التي كانت تمثل الصيغة السائدة في أماكن أخرى من الامبراطورية الرومانية).
وطورت تدمر أسلوبها الفني الخاص وطرازها الخاص من العمارة الكلاسيكية، وتكشف النماذج التزينية على مبانيها أزياء لباس سكانها عن علاقات واسعة النطاق مع الشرق والغرب.
إذ عثر على أنواع من الحرير الصيني تزين المومياوات في مقابر تدمر، إذ أن لهم ثقافة (كوزموبوليتانية) متنوعة ذات أفق دولي.
ولم تكشف التنقيبات الآثارية إلا عن أجزاء صغيرة من الموقع وما زال معظم الآثار تحت سطح الارض وليس مدفونا في طبقات عميقة من التربة، ما يجعله تحديدا عرضة لأعمال النهب.
ومثل مواقع أخرى في سوريا، فإن تدمر تعرضت بلاشك للنهب خلال الصراع الحالي، لكن بالنظر إلى سجل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق فإن هناك أسباب للشعور بالقلق من حدوث عمليات نهب وتدمير منظم إذا سقطت مدينة تدمر في أيديهم.
وفي حال حدوث ذلك، فإن فصلا كبيرا في تاريخ وثقافة الشرق الأوسط سيكون ضحية أخرى لهذا الصراع المأساوي.