.. وأخيراً أعلنت حركة حماس وثيقتها السياسية التي كنا أشرنا إليها في مقال سابق حيث تضمنت اعترافاً ضمنياً بالكيان «الإسرائيلي»، قد يتحول إلى علني لاحقاً في حالة وجود محفزات أمريكية «إسرائيلية» مقابل ذلك. وثيقة حماس والمهرجان الإعلامي الذي واكبها يشبه المهرجان الذي واكب جلسة المجلس الوطني الفلسطيني في غزة سنة 1996 لإلغاء البنود في ميثاق منظمة التحرير التي تتناقض مع الرسائل المتبادلة بين منظمة التحرير والكيان، وفق اتفاق أوسلو. في ذلك الوقت تم حشد من هب ودب لملء الشواغر في عضوية المجلس بهدف تمرير إلغاء البنود، ووقتها هب بعض الجهلاء عند التصويت واقفين مصفقين لإلغاء البنود، وهو سلوك قبيح، لأن من يلغي شيئاً من تاريخه يفعله بحزن وألم وليس بفرح.
لقد تبادل قادة حماس في الدوحة وغزة الابتسامات عبر الأثير عند إعلان الوثيقة الجديدة فرحين بإنجازهم وكأنهم على أبواب القدس.
الهدف الأساسي لوثيقة حماس هو العزف على الوتر السياسي بعد تلاشي وتر المقاومة وسيادة التنسيق الأمني والتهدئة على الحدود مع غزة، والوثيقة موجهة بالأساس لمصر التي تم تزويدها رسمياً من قبل حماس بنسخة عن الوثيقة، لكنها لم تبد أية رد فعل على ما جاء عن فك الارتباط مع «جماعة الإخوان»، واعتبرته مصر أمراً داخلياً يخص حماس، ولا يعنيها. كما حصل عليها «الإسرائيليون» عن طريق موفد مخابرات تركي زار «تل أبيب» والدوحة أكثر من مرة، وتم إيصالها إلى واشنطن، ما مكن وزير خارجية تركيا جاويش أوغلو، من أن يقول عند زيارته الأخيرة لواشنطن إن «حماس» ستعترف ب «إسرائيل»، بمعنى أن الضبابية في الاعتراف كما في الوثيقة ستختفي لاحقاً.
الدولة المؤقتة التي طرحتها «حماس» ليست فكرة جديدة فقد طرحها الشيخ أحمد ياسين، عام 1998 مقابل هدنة طويلة الأمد في محاولة لالتقاط لحظة توقف المفاوضات آنذاك أيام فترة حكم نتنياهو الأولى، أي أن «حماس» طرحت نفسها دوماً بديلاً لمنظمة التحرير، وليس طرفاً يسعى للشراكة. فحماس منذ بداياتها تطرح نفسها بديلاً للخط الوطني، وعندما أقدمت على إعلان وثيقتها الأخيرة انطلقت من التوجه نفسه ودعت بلسان خالد مشعل في مقابلته مع شبكة «سي إن إن» الإدارة الأمريكية إلى التقاط الفرصة وكأنها تريد القول إن الرئاسة الحالية للسلطة غير جديرة بالتفاوض. وبالفعل كانت حماس أعدت خطة لإبعاد الأنظار عن وثيقتها بتنظيم مسيرة للتضامن مع الأسرى واتخاذها وسيلة للهجوم على حركة فتح وقيادتها غداة الإعلان عن الوثيقة، رافعة شعارات «أبومازن لا يمثلنا» بالإنجليزية، وكأنها تخاطب الأمريكيين. لكنها عادت إلى قمع مسيرات حركة فتح للتضامن مع الأسرى.
عملياً فقدت حماس توازنها فهي لا تستطيع الدفاع عن موقفها إعلامياً ولا تستطيع إخفاء الانقسام الداخلي حول الوثيقة. ولعل ما أوجع حماس أكثر من غيره هي الإجراءات المالية التي بدأت السلطة في اتخاذها، حيث أعلنت أنها لن تدفع فاتورة الكهرباء ل«إسرائيل» لأن حماس تجبي فواتير الاستهلاك ولا توردها للسلطة، كما أن هناك تياراً في السلطة يدعو لوقف تمويل قطاعات التربية والصحة في غزة، فمن يحكم غزة عليه أن يتحمل هذه الأعباء كاملة، وهذا قد يؤدي إلى كارثة إنسانية وتمرد شعبي دموي ضد حماس. لكن حماس لا تعاني، حتى الآن، أزمة مالية لأنها تختزن ما يكفيها لستة أشهر مما جمعته من أثمان كهرباء وضرائب ومساعدات خارجية. إلّا أن وضعها الخارجي لا يبشر بالخير من حيث علاقاتها العربية والإقليمية التي تبدو في أسوأ حالاته.
«حماس» الآن، بالوثيقة أو من دونها تبدو في زاوية ضيقة، والوثيقة لن تفك عزلتها وبالتالي لا منجاة لها إلّا بالمصالحة الحقيقية التي تعفيها من مشقة مواجهة غضبة جماهيرية قادمة في غزة.
عن الخليج الاماراتية