تمر الذكرى السابعة والستون للنكبة لتشحذ فينا من جديد ذاكرةً لا يمكن للنسيان أن يكون جزءاً منها... ذاكرة تعيد عرض مشهد التهجير والقتل باللون الأسود... ولكن في المحصّلة فإنها تبقى عنواناً أساسياً في حياة الشعب الفلسطيني، ويبقى حق العودة ركناً أساسياً في قضيته، لا مجال للمساومة عليه، ولا مجال لتهميشه.
المسؤولون في دولة الاحتلال كثيراً ما ردّدوا شعار «الكبار يموتون والصغار ينسون» ولكن هل 67 عاماً تسببت في نسيان طفل فلسطيني للنكبة أو أرض أجداده... أو للمجازر التي ارتكبت بحق الأطفال والنساء والشيوخ؟.
كتبت عن الفالوجا أكثر من مرة وأنا اليوم في هذه الذكرى أعيد الكتابة عن بلدة ما زلت أعتزّ بانتمائي إليها، وأفتخر عندما أسرد سيرةً سمعتها من والديّ وأجدادي.
قبل يومين وخلال جلسة مع الكاتبة المصرية سكينة فؤاد وهي قومية الفكر، مؤيدة بشدة للقضية الفلسطينية، عرجنا في حديثنا على النكبة، خاصة عندما علمت أن اسم ابني جمال عبد الناصر، وأنني من الفالوجا، تلك البلدة التي يتغنّى بها المصريون لأن معركتهم الأخيرة في العام 1948 كانت فيها، وصمدت فيها القوات المصرية، بل إن هناك اتفاقاً يسمح لأهلها بالبقاء فيها. إلاّ أنه وللأسف فإن ما تبقّى من عائلات بعد تهجير جزء كبير منها غادرها باتجاه مناطق اللجوء المتعددة.
أصرت الكاتبة خلال الحديث على ضرورة توثيق كل مفاصل النكبة، وكل الروايات وإعادة صياغتها أدبياً لكل الأجيال.. للأطفال والفتية والشباب، بل إعادة نشرها عربياً وعالمياً حتى لا تكون هناك أي فرصة للنسيان، وليعلم الأعداء أننا شعوب لا تنسى نكباتها ولا تنسى أن تعيد حقها وإن طال الزمن.
عودة إلى الفالوجا... نعم جدّي وجدّتي توفاهما الله... ولكنهما لم يتخليا في حديثهما عن بلدتهما وأرضهما ومسكنهما وحياتهما فيها... ولم يكن يمرّ يوم إلاّ كانت النكبة بتفاصيلها حاضرة.
والدي ـ رحمه الله ـ ... أيضاً، حتى في لحظاته الأخيرة كان يعيد رواية كل ما حدث في الفالوجا... وكان دائماً يركّز على تلك المعركة الليلية التي كان مشاركاً فيها، ودائماً يقول عندما حاولت قوة صهيونية اختراق البلدة، شعرنا بتحركها بدأنا بإطلاق النار وإلقاء القنابل باتجاهها... حتى انهزمت وتراجعت حاملة إصاباتها وبقايا عمليات الإسعاف في المكان.
والدي الذي كان معتزاً بانتمائه للجيش المصري هاجر وبندقيته على كتفه، وربما هي التي ساعدت العائلة في توفير قوتها فترة من الزمن بعد أن اضطر جدّي لبيعها!!
ولكن، أيضاً، صبيحة هذا اليوم تحدثت مع والدتي، عن شعورها، والتي قالت: نحن اليوم نتذكر قتلى عائلة النجار عندما أغارت الطائرات الصهيونية على الفالوجا، وضربت المنازل بقوة، يومها دمّر منزل خالنا عطا الله النجار الذي تواجد فيه ابنه حسن الذي استشهد هو وعمتاي مريم (10 سنوات) ونعمة (7 سنوات) وعبد المجيد الحاج النجار (15 سنة) وعائشة زوجته وولداه محمد وأحمد ورابعة إسماعيل النجار... وكيف اختلطت أشلاؤهم بعد إخراج جثامينهم من تحت الأنقاض.
ووالدتي ـ أطال الله في عمرها ـ تتذكر مشهد تلك العروس التي تزوّجت في الفالوجا وهي من بلدة قطرة، ولم يمرّ على زواجها سوى يومين عندما ذهبت لجلب الماء، فأصيبت في الغارة، وكان رأسها منفصلاً عن جسدها... هي ليست ذكريات بل شواهد على إجرام العصابات الصهيونية، على حالة اغتصاب استمرت 67 عاماً، ولكن في النهاية سيعلو الحق... وكغيرها من مئات القرى والمدن المهجّرة ستظل الفالوجا ساكنة فيّ وفي أولادي وأحفادي... باختصار إلى قادة الاحتلال: الفالوجا ذاكرة ليست للنسيان.