عشت، وعاش معظم جيلي، جل الحياة في علاقة مع القضية الفلسطينية، متظاهرين في الصّبا والشباب خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ومجندين في القوات المسلحة في مطلع الرجولة خلال عقد السبعينات بعد أن وصل الاحتلال إلى شاطئ قناة السويس، وطرفا في النقاش الحاد حول الحرب والسلام طوال الثمانينات والتسعينات من القرن ذاته. شاب الشعر قبل أن يتم تحرير فلسطين، ولم يبق أحيانا شعر فوق الرأس، بعد أن امتد الفقدان إلى أراض عربية أخرى ضاعت هي الأخرى بين الثورات تارة، والإرهاب تارة أخرى، والتدخل الدولي تارة ثالثة. النتيجة في النهاية كانت شحوب «القضية الفلسطينية»، فالانقسام الفلسطيني بين غزة والضفة الغربية لم يعد قضية مفزعة بعد أن انقسمت سوريا والسودان والعراق واليمن، إن لم يكن من الناحية الفعلية والرسمية فهو حادث من الناحية الواقعية. والاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية والسورية واللبنانية لم يعد هو الاحتلال الوحيد بعد انتشار الاحتلال الإيراني في أراض عربية أخرى والتدخل الروسي أيضا، وقضية اللاجئين والنازحين الفلسطينيين، بات قضية لاجئين ونازحين آخرين من حزمة دول عربية.
لم يبق من القضية الفلسطينية كثير، اللهم إلا قصة الانقسام الفلسطيني التي تظهر وتختفي في الإعلام العربي حسب حركة القادة الفلسطينيين، والمنافسة بين فتح وحماس، وتحركات خالد مشعل بين الدوحة وأنقرة وطهران، وترديد السلطة الفلسطينية والجامعة العربية على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني مع الصدور السنوي للقرارات العربية التي تخص القضية «المركزية». دار الحديث أحيانا عن «الانتفاضة الثالثة» التي سرعان ما شحبت، لأن ممارساتها إعلامياً باتت أقرب إلى الإرهاب منها إلى «المقاومة». وفي كل الأحوال فإن إسرائيل بقيادة نتنياهو الفائز في الانتخابات بدأت تتصرف على المستوى العالمي كما لو كانت بلد الهدوء والرخاء والاستقرار والديمقراطية في منطقة مشتعلة وملتهبة تصدر الإرهاب إلى العالم واسمها الشرق الأوسط الذي كبر فجأة، وصار ممتدا من حدود الصين شرقا إلى شاطئ المحيط الأطلنطي غربا، ومن الحدود التركية الروسية شمالا حتى القرن الأفريقي جنوبا. ومع كبر الشرق الأوسط ومعضلاته، صغرت كثيرا القضية الفلسطينية حتى ولو كانت كبيرة ومشتعلة في قلوب العرب والفلسطينيين.
فجأة ظهرت «القضية الفلسطينية» مجددا، وكانت البداية في العام الماضي عندما ألقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خطابا في مدينة أسيوط، تضمن الحديث مرة أخرى عن القضية الفلسطينية، مطالبا بعدم تجاهلها، وكان المفهوم من الطرح أنه ما دام هناك بحث في منطقة الشرق الأوسط عن تسوية شاملة لمعضلاته وأزماته الكبرى، فلعل تسوية القضية الفلسطينية تكون ممكنة في هذا الإطار الأعم لتحقيق الاستقرار في منطقة ظلت الزلازل السياسية والعسكرية تمزقها طوال السنوات الست الماضية. وعلى مدى العام كانت هناك مياه كثيرة تمر تحت الجسور، وكذلك بدأ الحديث عن «القضية الفلسطينية» يتجدد مرة أخرى، ربما ليس بالدرجة نفسها من الحماس والشغف التي كانت تحدث في الماضي، ولكنه ليس بذات البرودة والتجاهل الذي بات قدر القضية «المركزية» منذ مطلع العقد الثاني في القرن الحالي.
وخلال الفترة القصيرة الماضية، تراكمت مجموعة من الشواهد التي دفعت شاي فيلدمان، مدير مركز «كراون» لدراسات الشرق الأوسط بجامعة «برانديز»، إلى كتابة مقال في دورية «ناشيونال إنترست» أو «المصلحة القومية» (The National Interest) في الأول من مايو (أيار) الحالي بعنوان «ترمب لديه فرصة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط»، تعليقا على زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لواشنطن ولقائه مع الرئيس الأميركي. وكان فيلدمان قد كتب مقالا سابقا في الدورية ذاتها أشار فيه إلى هذا الاتجاه مستندا إلى أن وجود الجنرال ماتيس على رأس وزارة الدفاع الأميركية، والجنرال ماكماستر مستشارا للأمن القومي للرئيس، مع تيلرسون القادم من «إكسون موبيل» على رأس وزارة الخارجية، وكلهم من العارفين بشدة بالشرق الأوسط وأهمية القضية الفلسطينية الإسرائيلية فيه، سوف يعطي دفعة لتناول القضية من منظور واقعي ومتفهم لتعقيدات القضية. كان ما اعتبره تغيرا في اتجاه الإدارة الأميركية الجديدة من الآيديولوجيين - ستيف بانون وشركاه - إلى الخبراء يفيد عملية السلام في الشرق الأوسط. هذه المرة فإن التفاؤل مضى خطوة أخرى، استنادا إلى دونالد ترمب نفسه، فرغم وجود كثير من الأزمات التي كان عليه التعامل معها من أول قصف قاعدة الشعيرات في سوريا، إلى تصاعد الأزمة مع كوريا الشمالية، والتحركات البحرية في بحر الصين الجنوبي، ومعالجة العلاقة الملتبسة مع روسيا، فضلا عن قضايا الداخل من قانون الرعاية الصحية إلى الهجرة إلى الضرائب وبناء الحائط مع المكسيك، فإن ترمب وجد الوقت للحديث عن صناعة السلام في الشرق الأوسط مع إرسال ممثله جيسون غرينبلات لزيارة المنطقة، مرة للاستماع إلى القيادات في القدس ورام الله، ومرة للقاء مع القادة العرب.
النتيجة التي توصل لها فيلدمان هي أنه ربما كان ما يشار إليه من عيوب في قدرة ترمب على إدارة الدبلوماسية الأميركية من عدم فهم تفاصيل القضايا من المزايا وليس من العيوب. فتركيزه على فكرة «الصفقة الكبرى» ربما كان هو ما يحتاجه حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وليس التفاصيل الكثيرة التي تكفلت بها من قبل مفاوضات ووثائق طوال ربع القرن الأخير. وفي الحقيقة أن ترمب نفسه أعطى بعضا من الأمل عقب لقائه مع الرئيس محمود عباس عندما قال معلقا على الصراع «إنه بصراحة ربما لا يكون من الصعوبة التي تصورها الناس عبر سنوات»! ويبدو أن الرئيس الفلسطيني وجد أنه من الملائم الطلب من الرئيس الأميركي: «السيد الرئيس، ربما حان الوقت لكي تنهي إسرائيل احتلالها لشعبنا وأرضنا». وهكذا فإن ترمب وضع «القضية الفلسطينية» مجددا على طاولة الحديث في الشرق الأوسط، والمرجح أنه سوف يضعها على جدول أعمال زيارته القادمة في المنطقة التي بات مقررا فيها زيارة السعودية، وهناك بعض الإشارات أنها سوف تشمل إسرائيل والضفة الغربية وعمان والقاهرة. هذه التحركات إذا تمت سوف تعطي للبعد العربي من الصراع أهمية كبيرة مع اتخاذ المبادرة العربية أساسا للتسوية، بحيث تكون «الصفقة الكبرى» مع كل العالم العربي، وليس فقط بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ولكن التفاؤل المتولد عن كل ذلك يجب ألا يضللنا، فهناك دول في المنطقة تعيش على استمرار الصراع، لأنه الضمانة الأساسية لاستمرار حالة عدم الاستقرار والتطرف، وهناك حركة حماس التي تحركت لكي تصدر بيانا سمته وثيقة كان كافيا، لكي يؤكد لأنصارها ألا شيء تغير في مواقفها الأساسية، ولكنه يوحي لجماعات في الغرب أنها بسبيلها للحاق بركب الباحثين عن السلام. ولكن الحقيقة هي أن حماس مع التعنت الإسرائيلي اليميني هما أهم العقبات التي سوف تقف أمام ترمب كما وقفت أمام سابقيه.
عن الشرق الأوسط