حركة المقاطعة على إسرائيل لا تعبر عن كفاح فلسطيني أصيل
«الدعوة للمقاطعة هي دعوة فلسطينية للتضامن، وعدم الاستجابة لها معناه التعالي»، هذا الاقتباس الذي ورد في مقال آفي بيتشون («ما لا يفهمه لورين هيل ومؤيدي المقاطعة الثقافية»، «هآرتس 5/5) – هو إحدى الحجج الأساسية التي تعتمد عليها الحملة من أجل مقاطعة إسرائيل، وهي مأخوذة من موقع منظمة BDS، غير أن هذه حجة كاذبة، فليس لـ BDS تقريباً أي قوة في الشارع الفلسطيني أو في السلطة الفلسطينية.
كي نفهم هذا يجب التفريق بين أنواع المقاطعة المختلفة في تاريخ النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني: أولاً، هناك المقاطعة العربية العامة التي فرضت على دولة إسرائيل منذ يوم إقامتها (وعملياً كانت قبل ذلك في عهد الحاضرة اليهودية).
هذه المقاطعة لا تزال سارية المفعول بشكل رسمي، ولكن على مدى السنين، ومع تطور العلاقات بين إسرائيل وبين بعض الدول العربية، فرغت من محتواها.
محاولة أخرى لفرض المقاطعة على إسرائيل وجدت تعبيرها في دعوة محمود عباس الفلسطينيين لفرض مقاطعة استهلاكية على المنتجات التي مصدرها في المستوطنات، ولكن الجودة المتردية للمنتجات البديلة التي استوردت من الأردن وبنغلادش تجعل من الصعب تنفيذ هذه المقاطعة، لأسباب عملية صرفة، وإضافة إلى ذلك، فإن الاتفاقات التجارية بين إسرائيل والسلطة تشكل جزءاً من اتفاقات أوسلو ولا يمكن التنكر لها بشكل جزئي.
المحاولة الثالثة لفرض مقاطعة على إسرائيل هي تلك التي يتناولها بيتشون في مقاله، وهي نتيجة مؤتمر ديربن ضد العنصرية في العام 2001، والذي شبه بين الصهيونية والعنصرية وقرر ممارسة كفاح مدني ضد إسرائيل حسب النموذج الذي طبق ضد نظام الأبرتهايد في جنوب إفريقيا.
ومن المهم جداً أن نتذكر بأن مقاطعة من هذا النوع لا تعبر عن كفاح فلسطيني أصيل، بل هو خليط أيديولوجي وجغرافي يوحد الحركات الإسلامية الكفاحية مع حركات اليسار وحقوق الإنسان ومع لاساميين بامتياز.
صحيح أن عمر البرغوثي، الذي يمكن التعاطي معه كواحد من «المفكرين» والأيديولوجيين لحركة المقاطعة، هو من سكان السلطة الفلسطينية ولكنه فريد من نوعه، فمعظم نشطاء الحركة وزعمائها، بمن فيهم الفلسطينيون، وكذا تمويلها وسياق اتخاذ القرارات فيها – مصدرهم في أوروبا، وتوجد لها قوة هزيلة للغاية في الشارع الفلسطيني.
أحد أبرز منتقدي إسرائيل، البروفيسور نورمان فينكلشتاين قال باستخفاف: إن «ليس لـ BDS قدرة حتى على إخراج 400 شخص إلى الشارع في رام الله»، كما أن شخصيات بارزة في الشارع الفلسطيني تحدثوا بشدة ضد المقاطعة.
الفارق بين حركة فلسطينية أصيلة وبين حركة أوروبية يمكن أن نصفه على النحو التالي: النموذج السائد في الشارع الفلسطيني هو في الغالب برغماتي، وهو يركز على الثنائية التي بين وقف الاحتلال والتركيز على المسيرة السلمية، الدولتين، التطبيع، الأمن الشخصي والتشغيلي، وبالمقابل، فإن النموذج الذي يميز النشطاء الأوروبيين من أجل المقاطعة على إسرائيل، وبمن فيهم رجال «الشتات الفلسطيني» (الاصطلاح الإشكالي بحد ذاته) يركز على إحقاق «العدل التاريخي» للشعب الفلسطيني، وبالتالي فإن الرواية الأوروبية التي تميز النشاط من أجل المقاطعة هي أكثر راديكالية من تلك التي تميز الشارع الفلسطيني، وأقل اهتماماً برفاهية الأفراد في المجتمع الفلسطيني، وهنا يكمن الأساس لترودسكي الذي تناوله بيتشون.
وتتميز بهذا التباين الآلية التي بين جماعات المنفى وبين أبناء ذات القومية ممن تبقوا في دولهم الأصلية، ويمكن أن نجده مثلاً في النزاع الذي بين المنفيين الكوبيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة وبين مواطني كوبا، فبينما يرحب مواطنو كوبا بـ «الانفراج» في العلاقات بين دولتهم والولايات المتحدة، فإن طائفة المهاجرين الكوبيين تتظاهر ضد التقارب وتطالب قبل كل شيء بالعدالة، حسب فهمها.
نقطة أخرى، وقف عندها بيتشون هي الفوارق في مدى تأثير المقاطعة على الثقافات المختلفة.
في الحالة الإسرائيلية لا تحقق المقاطعة النتيجة المرجوة من حيث التراجع، بل العكس: فجيناتنا القومية تشخصها كتأكيد على الميل الانعزال الكامن في الشعب اليهودي منذ الأزل من قبيل «شعب وحده يسكن ولا يراعي الأغيار».
ويدفع الاشتراط الإسرائيلي الجمهور هنا لأن يرى في المقاطعة مظهراً للاسامية ويبرر بالذات التمترس في المواقف وليس تغييرها.
وبالنسبة للأحداث التي أدت إلى إلغاء عرض المغنية لوران هيل، والذي هو سبب مقال بيتشون، فكمن شارك في الأمر يمكنني أن اشهد على أنه في أعقاب الضغط العنيف الذي مارسه نشطاء المقاطعة، سعت المغنية إلى رفع العتب وتنظيم عرض لها في السلطة الفلسطينية، وقد نقل الطلب من مخرجي العرض في البلاد إلي، وأنا بدوري نقلته إلى شخصية رفيعة المستوى في المؤسسة الثقافية – السياسية في السلطة، وكان الرد الأولي هو السرور، إذ من لم يكن يريد أن يقام له عرض لنجمة دولية، بل ومجاناً.
أما الصعوبة التي ثارت فكانت فنية فقط. مدراء القاعات والمستويات الميدانية في رام الله رفضوا أن يحركوا ساكناً في هذا الشأن؛ لأنهم لم يتلقوا الرواتب منذ أشهر عديدة، وتجدر الإشارة إلى أنه لم تعرب أي شخصية فلسطينية في أي مرحلة عن معارضتها لإجراء العرض من هيل في إسرائيل، بل لم يفهموا الصلة التي بين إجراء العرض في إسرائيل وإجراء عرض في رام الله، والجملة الأخيرة التي قالها لي رجل الارتباط الفلسطيني كانت «خسارة، هذا الهراء (المقاطعة) لا يساهم في شيء».
عن «هآرتس»