نعالج أخطاء 60 سنة.. عبارة متواترة على ألسنة المسئولين فى مصر وهم يبررون الإجراءات الاقتصادية القاسية التى تتخذها الدولة لإقرار مبدأ أن يحصل المواطن على كل سلعة أو خدمة بثمنها الحقيقى، بصورة تساعد الدولة على التخفف من الدعم. طيلة السنوات الستين الماضية كانت الدولة تشعر بالتزام حقيقى إزاء المواطن، هذه القاعدة استنها الزعيم جمال عبدالناصر، فاتخذ العديد من الإجراءات التى تتحمل فيها الدولة الكثير من الأعباء بالنيابة عن المواطن، من خلال ما أطلق عليه «سياسات الدعم». السلطة الحالية تتبنى نظرة مختلفة لمسألة الدعم، فهى ترى فيه سراً من أسرار عجز الموازنة وتعطيل قدرة الاقتصاد على التحرك، وأنه آن الأوان للتخلص من هذا العبء، بأن تتحلل الحكومة من دعم المطعم والمشرب والصحة والتعليم والكهرباء والغاز والسولار والبنزين والمياه وهلم جرا. وكجزء من الهجمة على فكرة دعم المواطن الملهوف وذى الحاجة، مارس بعض المسئولين هجوماً على الزعيم جمال عبدالناصر -رحمه الله- واتهمه أحدهم بتخريب الصحة والتعليم فى مصر، بسبب المجانية!.
من حق أى سلطة أن تكون لها رؤيتها الخاصة للواقع، وأن يكون لديها طرحها الخاص للتعامل مع مشكلاته، لكن ثمة مجموعة من الملاحظات التى تستحق التوقف أمامها فيما يتعلق بالرؤية الاقتصادية التى تؤسس لأداء الحكومة الحالية. أولها أن الحكومة تزعم أنها لا تلغى الدعم، وإنما تعيد توظيفه لصالح من يحتاج. على سبيل المثال زعمت الحكومة وهى تتخذ قرارين متواليين بخفض الدعم على أسعار البنزين والسولار أنها سوف توجه المليارات الفائضة لدعم التعليم والصحة. ولعلك تذكر أن أول قرار بتحريك أسعار المشتقات البترولية اتخذ عام 2014، يعنى مضت ثلاث سنوات على تدشين سياسة إعادة هيكلة الدعم، والسؤال ما مردود هذا القرار وغيره على التعليم والصحة؟ هل شهدنا تحسناً ولو طفيفاً على مستوى هذين الملفين؟. الملاحظة الثانية أن إصلاح الأوضاع الاقتصادية لا يرتبط فقط بتخفف الدولة من أعباء الدعم، فهناك مسارات أخرى يمكن أن تسهم فى رفع القدرات الاقتصادية لأى دولة، ولست بحاجة إلى تكرار ما هو معلوم بالضرورة من أن الحكومة الحالية مقصرة -إلى حد الفشل- على مستوى ملفين اقتصاديين أساسيين، يتمثلان فى جلب الاستثمارات وتنشيط السياحة.
الملاحظة الثالثة تتعلق بالفارق بين اتخاذ قرارات برفع أسعار السلع والخدمات يتحمل عبئها البسطاء وأبناء الطبقة الوسطى، وبين مواجهات كان ينبغى على السلطة خوضها ضد الاحتكارات والفساد. الملاحظة الرابعة تتعلق بمستويات الدخل فى مصر، فالحكومة لا تتردد فى التمحك بالحديث عن أسعار السلع والخدمات فى دول العالم، لكنهم يضربون صفحاً عن مستوى المرتبات والدخول فى هذه الدول. وحقيقة الأمر فإن الإصرار على بيع كل شىء للمصريين بسعره العالمى، مع عدم تهيئة الظروف الاقتصادية بصورة تتيح للمواطن أن يعمل ويربح، عبر جلب الاستثمارات وتنشيط السياحة ومواجهة الفاسدين والمحتكرين يعنى ببساطة خطة لقتل المواطن مع سبق الإصرار والترصد. الحكومة تطالب المواطن بأن يكون محترماً ويشترى كل شىء بثمنه، شأنه شأن أى مواطن فى دول العالم، والسؤال: هل تؤدى الحكومة الحالية مثلما تؤدى أى حكومة محترمة فى العالم؟!.
عن الوطن المصرية