إسرائيل فشلت في محو خطوط 1967 داخل القدس

20172005091811.jpg
حجم الخط

كان ايتمار دورون من مؤيدي برسليف، واعتاد على الغطس بشكل دائم في نبع صغير تحت حاضرة أورا في جبال القدس. في تشرين الأول 1998 تسلل نشيطون من خلية تابعة لـ»حماس» إلى النبع، وقاما بإطلاق النار على السياح. قتل دورون في المكان الذي أصبح يسمى «عين ايتمار». هذا نبع صغير مع بركة صافية وجميلة، ومثل كثير من ينابيع المنطقة تتم كتابة شعارات سيئة بجانبه من قبل البرسلافيين. الاسم السابق للمكان هو عين البلد. القرية هي قرية الولجة، التي كانت في هذا المكان حتى العام 1948، قبل أن تم اخلاء السكان منها الى الطرف الثاني لجدول رفائيم على الحدود، حيث اقاموا قريتهم من جديد، التي تطل على انقاض القرية القديمة. تحت الحاضرة، بينها وبين النبع الصغير، تمر خطوط القطار القديمة الى القدس في مركز جدول رفائيم، وهو من أكبر الجداول في القدس. في هذه النقطة يدخل «الخط الأخضر» الى المدينة، خط الحدود بين إسرائيل والاردن، خلال الـ 19 سنة بين 1948 – 1967.
مرت خمسون سنة على الغاء هذا الخط بشكل قانوني، بعد انتهاء حرب «الايام الستة» بثلاثة أسابيع. عندها صادق الكنيست في عملية نصف سرية وبيروقراطية موجهة على ضم شرقي القدس وتوحيد المدينة. في الفترة التي مرت بذلت اسرائيل جهوداً كبيرة، اقتصادية وهندسية ولغوية، من أجل محو «الخط الاخضر» كي تثبت للعالم ولنفسها أن الخط قد اختفى وأن المدينة موحدة «الى أبد الآبدين»، كما يقول الكليشيه.
هل نجحت هذه الجهود، هل بالفعل لا يمكن رؤية الخط الاخضر في القدس في 2017؟ ما الذي بقي من الخط البلدي الذي قسم المدينة على مدى 19 سنة؟ وما هو مغزى ذلك بالنسبة لمستقبل القدس؟ للاجابة عن هذه الاسئلة سافرت قبل اسبوعين للبحث عن الخط في الوادي الأخضر في جنوب المدينة وفي الشوارع الرئيسية في المالحة وبيت صفافا وحقول رمات رحيل وأزقة الثوري قرب أسوار المدينة القديمة وفي الاحياء الحريدية في شمالي القدس. الدراجات الهوائية الجبلية التي يمكنها السير في الطرق الترابية واجتياز الدرج كانت الأداة المناسبة لهذه المهمة.
التقيت في «عين ايتمار»، كما هو متوقع، مع أحد اتباع برسليف، الذي كان يقوم بتجفيف شعره بالمنشفة. على جدران البركة وضعت شعارات جديدة وقبيحة. «فرح» كُتب هناك. وعلى اليمين كانت خطوط القطار والخط الاخضر، وفي الأمام من الشمال في كل نقطة التقاء على طول الطريق سيكون الفلسطينيون على الجهة اليمنى والاسرائيليون على الجهة اليسرى.

باتجاه النبع
البداية سهلة. الشارع في المنطقة متعرج حوالي 200 متر شرق خطوط القطار. تم التخطيط له كي يُمكن القطارات من الاستمرار في السفر بأمان بين القدس وتل أبيب. وقد توصل موشيه ديان الى اتفاق خطي مع سكان قرية بتير القريبة يسمح لهم الاستمرار في فلاحة اراضيهم داخل المناطق الاسرائيلية شريطة الحفاظ على خطوط القطار وحراستها. وقد تم تقديم هذا الاتفاق لمحكمة العدل العليا في الصراع من اجل بناء جدار الفصل. من «عين ايتمار» تتعرج الطريق التي توجد فوق الجدول حتى عين اللبن، التي كانت هي ايضا ذات مرة احدى ينابيع الولجة (عين الليك، كما يسميها سكان المنطقة). في السنوات الاخيرة تم اعمار النبع. في الجهة المقابلة يوجد النبع الثالث والأهم؛ عين حانيا، الذي تستمر فيه الاصلاحات.
قبل نحو أسبوعين تم استئناف الاعمال لإحاطة الولجة بجدار الفصل. ستحاط القرية من جميع الاتجاهات باستثناء فتحة واحدة باتجاه بيت جالا. السكان على قناعة بأن الجدار الذي يغلق عليهم يهدف أولا وقبل كل شيء الى ابعادهم عن اراضيهم وينابيعهم، التي ستتحول الى جزء من الحديقة المتروبولية الجديدة في القدس. ولكن المسافر الساذج في الطريق سيستمتع بالمنظر الطبيعي الجميل، برك مياه وطيور. من عين اللبن واصلت على طول الطريق المفتوحة حتى مداخل حديقة الحيوانات التوراتية. وهنا تتم اقامة المسمكة الجديدة للقدس، المشهد المائي الاجمل – عشرات انواع الاسماك ومن ضمنها اسماك القرش، ستجد بيوتها هنا داخل أوعية كبيرة تطل على الجبال.

القرية المستقرة في القدس
عندما يدخل الخط داخل القدس يصبح التعرف عليه اكثر صعوبة. شوارع واسعة واحياء وجدران وأسوار أخفت من زمن خط الحدود القديم. التعرف على الخط والسفر على طوله هو مهمة تحتاج النظر الى الخارطة. لا تشير الخرائط الاسرائيلية الى الخط الاخضر في القدس. ولمساعدتنا كانت الخارطة الأكثر شهرة في العالم، خارطة «غوغل»، التي تشدد على اظهار «الخط الاخضر». ولكن بأثر رجعي يمكن الاستنتاج والتعرف على مكان الخط من طريقة تطور المدينة. مثلا، محطات الوقود ومحطات الحافلات هي مميزات واضحة لخط الحدود القديم، لأنها أقيمت احيانا بعد سنوات طويلة من الحرب، في المناطق التي بقيت فارغة نسبيا في المنطقة المتروكة التي نشأت بين خطوط الحدود. محطة الوقود الاولى من بين محطات كثيرة توجد أمام الاستاد الرياضي الجديد الذي أقيم في المالحة.
من هناك يمر الخط على طول الطريق الترابية في منطقة مهجورة، وأكوام من قطع السيارات تشير الى تفكيك السيارات القديمة حتى قريبة بيت صفافا. «القرية الاكثر اضحاكا في العالم»، كما سماها حاييم غوري، الذي قام بجولة مشابهة على طول الخط في العام 1962، والتي تم توثيقها في تقرير نشر في صحيفة «بمحنيه». وسبب هذا الاسم هو أن الخط الاخضر قام بتقسيم القرية الى قسمين – الجزء الشمالي اردني والجنوبي اسرائيلي. ويقال في صالح من وضعوا هذا الخط، موشيه ديان وعبد الله وصفي التل، قائد الجيش العربي في القدس، بأنهم لم يتخيلوا أن خط وقف اطلاق النار المؤقت سيتحول الى حدود سياسية على مدى 19 سنة، والى حدود شرعية لدولة اسرائيل على مدى 50 سنة اخرى.
«بيت صفافا»، كتب غوري، «لا تظهر في الاخبار، وهي ليست مصدرا للتوتر القومي، هذه قرية عربية مليئة بالحدائق الخضراء والبساتين... يمر الخط وسط عائلة، بين شجرة وشجرة، بين ولد وصديقه. في النهار يوجد خط وفي الليل يشطب على أيدي الاقارب والاحباء والمهربين». في هذه الاثناء، مثلما كان في حينه ايضا، لا تظهر بيت صفافا في الاخبار. وهذه بلا شك القرية الفلسطينية الاكثر استقرارا في القدس. اغلبية بيوتها بنيت قانونيا، المخبز فيها والمحلات مليئة بالزبائن اليهود، والسكان يتحدثون العبرية بطلاقة. وقد احتج أحد السكان أمام مصور «هآرتس» بسبب التعامل الدائم مع موضوع الاحتلال: «كفى، كفى التحدث عن الاحتلال وتذكير الناس، لا أحد هنا يهتم».
يستمر الخط من القرية نحو المنطقة الصناعية في «تلبيوت»، شارع مهمل لكراجات صغيرة، وينتهي، سواء صدقتم ذلك أم لا، بـ»كراج جدعون ليفي». من هناك يتجه نحو كيبوتس «رمات رحيل». وفي الطريق نمر بمحطتي وقود ومحطة باصات اخرى. يفصل الخط بين موقع «رمات رحيل» الاثري وبين صور باهر. وهنا في هذه النقطة جلس زعماء القدس على مر الاجيال، من ايام حزقياهو ومرورا بالزعماء الفارسيين والهيلينيين. البريطانيون، بعد ذلك بألفي سنة، سكنوا في تل قريب هو «ارمون هنتسيف». المنطق هنا واضح، هذه نقطة مرتفعة مطلة وبعيدة بما فيه الكفاية، ومنها يمكن مراقبة المدينة غير المستقرة في الشمال. هنا ايضا اقام الاردنيون احد المواقع الاكبر في منطقة القدس، موقع الجرس. وهنا ايضا كان يوجد حقل الالغام الاخير في منطقة القدس، الذي تم تفكيكه في العام 1990.
في اطار عمليات الاعمار التي تمت في الموقع قبل شهرين تم اكتشاف جثث لثلاثة جنود اردنيين ظلوا هنا منذ العام 1967. احتج مدير معهد الطب الشرعي على طريقة التعامل مع الجثامين من قبل رجال «زاكا»، الذين قاموا بالحفر. وحذر في رسالة نشرت في القناة الثانية من الضرر السياسي الذي قد يتسبب فيه هذا الأمر. على هذه التلة في رمات رحيل توجد ايضا احدى علامات الحدود – تمثال رائع للفنان ران مورين، الذي يشمل ثلاث اشجار زيتون مغروسة في اعمدة مرتفعة. وعلى اليمين صور باهر وعلى اليسار رمات رحيل.

حول الخارطة الدولية
جولة قصيرة بجانب التمثال، حيث استمر في السير الى حي «أرنونا». من اليمين ينزل المشهد نحو صحراء «يهودا». في نقطة من النقاط التي تطل على الصحراء والبحر الميت تمت اقامة القنصلية الأميركية الجديدة في العام 2010. وقد بنيت بطريقة تسمح بتحويلها الى سفارة. وفي الوقت الحالي، رغم الوعود الكبيرة في بداية طريق الرئيس ترامب، يبدو أن هذه الحاجة لم تنشأ بعد. وها هي مشكلة اخرى للقدس، يمكن أنه من الصعب ايجاد الخط داخل المدينة، لكنه قائم وواضح في كل خارطة وفي كل وثيقة في الدبلوماسية الدولية. في هذه الحلبة فشلت اسرائيل في محاولة محو الخط في القدس والحصول على نوع من الشرعية لعاصمتها. ففي ظل وجود رئيس شعبوي مثل ترامب ايضا يتم الامتناع عن نقل السفارة الى القدس، الامر الذي يؤكد على الفشل أكثر فأكثر.
يوجد أمام القنصلية بيت الكاتب شاي عغنون. في تموز 1967 كان عغنون من أبرز الموقعين على وثيقة «أرض إسرائيل الكاملة». «انتصار الجيش الاسرائيلي في حرب الايام الستة وضع الشعب والدولة في فترة جديدة ومصيرية»، كما جاء في الوثيقة.
واصلتُ من هناك على طول شارع بيتار. تحولت الاحراش القديمة لرمات رحيل في الجهة اليمنى منذ زمن الى حي يسمى «أرنونا الجديدة». من هنا يمر الخط بالتوازي مع جدار دير سانت كلير، الغامض، ومن هناك الى حي آخر قُسّم الى قسمين وبقي مقسوما الى الآن، الثوري. هنا الخط بارز جدا. أبو طور اليهودية هي حي اخضر مليء بالحدائق، والثوري العربي وراء الخط غير المرئي هو حي فقير وقذر ومهمل. وهذه علامة اخرى على أن الخط الاخضر قد محي من الميدان، لكنه لم يمح من وعي الناس.
عند الخروج من أبو طور ينزل خط الحدود الى «غاي بن هينوم»، وهو الموقع الذي منح العالم اسم «جهنم»، والآن هو وادي اخضر وجميل في مركز المدينة. وقد نزلت الى الوادي وتسلقتُ منه. بعد بضع سنوات سيكون هذا المسار اسهل بفضل جسر كبير من الحبال، تسعى لاقامته جمعية العاد فوق الوادي. يميز «هار تسيون» فترة القدس المقسمة بشكل استثنائي: كان منطقة اسرائيلية داخل الاراضي الاردنية بين الحربين. في هذه الفترة حوّلت الدولة الفتية المكان الى موقع مقدس، من اجل أن يشكل البديل لـ»حائط المبكى» الغربي الذي بقي في الجانب الآخر من الحدود. وتم ابراز قبر داود القريب. والى جانبه تم فتح قبو المحرقة، متحف المحرقة الاول. وفي المكان تتم مراسيم سنوية بمشاركة الحاخامات الكبار ورؤساء الدولة. عند تحرير «حائط المبكى» الغربي تم نسيان المكان حتى السنوات الاخيرة، حيث بدأ الصراع الديني بالاشتعال من جديد حول قبر داود وحق المسيحيين في استخدام غرفة «العشاء الاخير» التي توجد فوق القبر. وقد دفع ثمن هذا الصراع البلاط الاسلامي القديم الذي زين القبر، وفي العام 2012 تمت ازالة بقاياه الاخيرة لمحو أي اشارة تدل على الماضي الإسلامي للمبنى.
من جبل صهيون يتعرج الخط على طول اسوار البلدة القديمة، مرورا ببوابة صهيون المليئة بثقوب الرصاص – نقطة اقتحام فاشلة للبلدة القديمة في محاولة لانقاذ الحي اليهودي في العام 1948 - وحتى شارع يافا. البوابة مليئة بالناس، عدد كبير من السياح الاتراك يتجولون بين المحلات والمطاعم. دخلتُ أحد المقاهي للاستراحة ولشحن الكاميرا والهاتف. زميلي في الحديث هو احمد، الفلسطيني من حي الطور والذي يعمل في «الكيرن كييمت» الاسرائيلية. وبفضل وظيفته اصبح خبيرا في اطفاء الحرائق في المدينة. في حريق الكرمل في العام 2010 فقد شعره وحواجبه. قبل لقائنا باسبوع استدعي لاخماد حريق اندفع في اعقاب تدريب عسكري قرب موقع آدم.
من شارع يافا واصلتُ على طول الاسوار حتى الباب الجديد. وهنا يوجد «دير الراهبات المصلحات»، وهو دير فرنسي كبير موجود على السور، الى أن تم تفجيره على أيدي «الهاغاناة» من اجل اغلاق الطريق أمام الجيش الاردني الذي هدد بالصعود الى القدس. وهنا ايضا يتوحد الخط الاخضر مع خط القطار الخفيف.
من هناك ينزل الخط الى باب العامود، الفاخر والجميل من بين ابواب البلدة القديمة، والمعروف اكثر كساحة دائمة للعمليات. في العامين الاخيرين حدثت امام الباب والساحة المقابلة له عشرون عملية طعن. وهنا ايضا توجد المحطة المركزية للحافلات في شرقي القدس. نعم توجد في القدس محطتان منفصلتان للحافلات، حافلات شرقي المدينة لونها ابيض مع خطوط خضراء. للحظة تضيء الحدود القديمة بين شطري المدينة.
من هنا وعلى طول 1.5 كيلومتر اصبح الخط الأخضر واضحا. من اليمين حي المصرارة وباب الساهرة، مركز القدس الفلسطيني. ومن اليسار المصرارة اليهودية وبيت اسرائيل والاحياء اليهودية.

الحدود الطبيعية
قلم الرصاص الاخضر، الذي من خلاله رسم ديان والتل الحدود، لم يكن حاسما وأبقى منطقة كبيرة مكنت من شق الشارع الواسع الذي يعبر المدينة. في الخرائط يسمى طريق بارليف، لكن المقدسيين يسمونه شارع رقم 1. إن الذي ما زال يعتقد أنه يمكن تقسيم القدس يعتبر هذا الشارع مفتاح التقسيم. فهذا الشارع الواسع القريب من سكة الحديد يجعل العبور صعبا من طرف الى طرف. المهندسان يهودا غرينفيلد وكيرن بارسيني اللذان وضعا خطة تقسيم المدينة من اجل مبادرة جنيف، يقترحان اعتبار هذا الشارع وأسوار البلدة القديمة الحدود الطبيعية. لذلك كل ما بقي لفعله من اجل رسم الحدود هو رفع وتحسين الجدار الموجود اصلا بين الشارع وسكة الحديد، وإضافة اجهزة الانذار والكاميرات. وهكذا ستصبح لنا حدود بلدية بين دولتين.
الى حين إقامة حدود كهذه، اذا أقيمت، يمكن ايجاد البرهان على الخط الاخضر القديم على أعمدة الاشارات الضوئية في مفترق شارع رقم 1 وشارع نعمي كيس. على الاشارة الضوئية يتم وضع اشرطة النايلون كل يوم في الساعة الثانية ظهرا من قبل الشرطة لمنع المرور. لا أحد يتذكر متى بدأ هذا، لكنه يحدث منذ سنوات. في البداية كانت الشرطة تقوم بايقاف سيارة للشرطة في الشارع لمنع السائقين من التوجه يسارا الى الشارع الرئيسي. والآن يكتفون بوضع الشريط الاحمر بين الاشارات الضوئية. في الساعة الخامسة مساء يتم رفع هذا الشريط ويسمح بمرور السيارات بشكل طبيعي. الهدف المعلن لاغلاق الطريق هو تخفيف ازمة السير في الشارع الرئيسي. فمن يصل من الشرق لا يمكنه التوجه يسارا في الشارع. لكن نظرة عميقة ستبين أن هذا الشريط يمثل الخط الذي نبحث عنه.
اليوم في القدس، على الخط الاخضر لا توجد جدران حديدية ورجال شرطة مسلحون، لكن الخط يشير الى الفرق الكبير في تعامل السلطات مع السكان الفلسطينيين والسكان الاسرائيليين في المدينة. بكلمات اخرى، طالما أنه لا يمكننا تخيل وضع تغلق فيه سيارة الشرطة الشارع بشكل دائم في غربي المدينة من اجل تسهيل الحركة، فان الخط سيستمر في تقسيم المدينة. وهذه شهادة اخرى على أن تقسيم المدينة ليس جغرافيا، ويصعب رؤيته بالعين المجردة، لكنه قائم في وعي من يتخذون القرارات في الشرطة وفي البلدية وفي الحكومة. والأهم من ذلك هو أنه قائم في وعي سكان القدس انفسهم. وكل من يعيش في القدس يعرف أن هناك فصلاً بين السكان في شطري المدينة، حتى لو كان من الصعب ملاحظته. ولكننا سنعود الى هذا الامر في السياق.
نستمر مع الخط على سكة القطار الخفيف. نمر عن متحف الخط الحدودي. وهو المتحف الذي اقيم في بيت ترجمان، الذي استخدم كموقع للجيش الاسرائيلي بين الحربين – والشرطة المحطمة من القذائف هي علامته الفارقة. وهنا ايضا كانت بوابة مندلبوم، وهي البوابة الاهم بين شطري المدينة على مدى سنوات التقسيم. وبقي الآن من البوابة عامود كبير توجد عليه ساعة شمسية.
واصلتُ نحو حي «رمات اشكول» ومررتُ بجانب تلة الذخيرة، وهي الاشارة الاكثر وضوحا على حرب «الايام الستة». وهنا سيقف بعد اسبوع رئيس الحكومة وسيقسم بأن القدس ستبقى موحدة. في العام الماضي أشرك نتنياهو الجمهور بذكريات طفولته في القدس.

البوابة الشمالية
من تلة الذخيرة ينزل خط الحدود الى «رمات اشكول»، وهو من الاحياء اليهودية الاولى التي بنيت وراء الخط الاخضر. الهدف المعلن من اقامته كانت الحاجة الى بوابة شمالية. منطقة يهودية تفصل بين البلدة القديمة والاحياء الفلسطينية في الشمال، ويربط القدس الغربية مع جبل المشارف. منذ ذلك الحين وحتى الآن لم تتحرر حكومة اسرائيل من اعتبار القدس لوحة شطرنج يتم البناء فيها من اجل اغلاق الطريق أمام «العدو».
خلال ولاية اوباما عاد الخط الاخضر الى خرائط المدينة، لأن كل مصادقة على خطة بناء لليهود وراء الخط خلقت ازمة سياسية مع واشنطن. في الاشهر التي مرت منذ تولي ترامب منصبه تشوش الخط قليلا. ولكن هذا الأمر لا يعنينا.
لنعد الى الخط. من «رمات اشكول» ينزل خط متعرج نحو جدول «تسوفيم» الذي يتجه غربا من مفترق التلة الفرنسية. في قلب الجدول تم فتح مسار للدراجات، وهو جزء من المسار الذي يحيط بالمدينة من ثلاثة اتجاهات – شمال، غرب وجنوب. هذا المسار مفتوح جيدا ويناسب سير الدراجات، أنا أسير فيه بسرعة ومن هناك اصعد الى «حي رموت» الذي اقيم في معظمه وراء الخط الاخضر، لكن زاوية واحدة منه توجد في الاراضي الاسرائيلية، وهي زاوية «متسبيه نفتوح»، التلة الخضراء الاخيرة في منطقة القدس والتي يدور حولها صراع بين ادارة التخطيط التي تريد تحويلها الى حي سكني، وبين السكان الذين يريدون الدفاع عن الظباء والغزلان والثعالب وعشرات انواع الطيور ومئات انواع النباتات التي تنمو هناك.
هنا ايضا ينتهي المسار ويخرج الخط الاخضر من القدس.

خط لا يمحى
سافرت مسافة 27.2 كم من «عين ايتمار» في الجنوب وحتى «متسبيه نفتوح» شمالا. يبدو أن المسار ليس دقيقا، وسيرا على الاقدام ايضا لا يمكن تتبع الخط التاريخي بشكل دقيق، حيث تقطعه المباني والجدران والشوارع. ولكن المهندسين والجغرافيين يمكنهم الاستدلال عليه بوساطة محطات الوقود ومواقف الحافلات والشوارع السريعة. ورغم أن حياة هذا الخط كانت قصيرة إلا أنه ترك بصماته في «دي.ان.إيه» المدينة. ولكن السؤال المهم هو هل ما زال يوجد كواقع سياسي؟ أو بكلمات اخرى، هل القدس موحدة؟.
بمعان كثيرة نجح مشروع شطب «الخط الأخضر». الأحياء الكبيرة التي بنيت شرقه والبنى التحتية الكبيرة التي تقطعه من جهة الى جهة، كأنها شطبته من الخرائط، واهمال شرقي القدس وحقيقة عدم اقامة منطقة صناعية فيها وسوق العمل الفلسطينية للقدس التي توجد في الجانب الغربي – كل ذلك ساهم في محو الخط. والمفارقة هي أن بناء جدار الفصل الذي فصل شرقي القدس عن الضفة الغربية زاد من اخفاء الخط: طالما أن القدس هي العاصمة الثقافية والاقتصادية والسياسية للضفة الغربية، فقد حافظ شرقي القدس على مكانته وطابعه كمدينة وراء الخط. الفصل القسري عن الفلسطينيين في «المناطق» دفع السكان العرب في القدس باتجاه الغرب من اجل البحث عن العمل والدراسة، وأسهم في توحيد المدينة في الحياة اليومية.
رغم ذلك، هو هناك. الخط الاخضر سيستمر في الوجود في القدس طالما ستأتي سيارة الشرطة كل يوم في الساعة الثانية الى شارع «نعمي كيس». وسيبقى طالما أن الفلسطينيين في المدينة لا يصوتون للكنيست، وطالما يستمر الاجحاف بحقهم في كل بند من بنود الميزانية البلدية والحكومية. وسيستمر طالما أن 80 في المئة من سكان المدينة يعيشون تحت خط الفقر، و80 في المئة من المنازل بنيت بدون ترخيص. وسيستمر طالما أن المجاري تتدفق من احياء شرقي المدينة الى وادي قدرون. وسيستمر طالما أن الاغلبية الساحقة من سكان شرقي القدس يشعرون بأنهم يعيشون تحت نظام غريب وقمعي، تحت الاحتلال.
من نقطة انتهاء المسار يمكننا أن نرى بشكل جيد أضرار الحريق الذي اندلع في «متسبيه نفتوح» قبل عام بالضبط. وشعلة «لاغ بعومر» التي لم يتم اطفاؤها بالشكل الصحيح تسببت بحريق كبير وحولت التلة من تلة خضراء الى تلة سوداء. الغزلان والحيوانات الصغيرة الاخرى ماتت، والحيوانات الكبيرة هربت. ولكن الربيع في هذه السنة كان رفيقاً للتلة. فمن بين الاشجار المحترقة ظهرت الاعشاب الخضراء والزهور الملونة.
عن «هآرتس»