عشر سنوات مضت.. لم تمضِ

د.عاطف أبو سيف.jpg
حجم الخط

يكمل الانقسام سنته العاشرة فيما لا تبدو فرص إنهائه أكثر منها حين بدأ رغم المياه الكثيرة التي جرت تحت الجسر.
ليس لأن مناعة الانقسام أكبر من كل الحلول، وليس لأنه لا يمكن إيجاد صيغ بسيطة ولكن كافية لوضع حد له، ولكن لأن النوايا الحقيقية لم تكن في السابق وهي غير موجودة الآن.
وعليه فإن سنوات عشراً لا تبدو نهائية في مسيرة الشرخ الفلسطيني الفظيع، وعليه فإن سنوات عشراً أخرى قد تمضي دون أن تتغير الحال.
تتغير الظروف، وتتبدل الأحوال، وتنقلب رأساً على عقب المنطقة ويلتهب الإقليم وتفكك دول وتنهار أنظمة، ويظل الانقسام وتبعاته أكثر مناعة من كل شيء، لأن استمراره مصلحة ليست للفلسطينيين بل مضرة لهم.
المحزن أن كل ما جرى في الإقليم لم يؤثر كثيراً في بنى الانقسام وهياكله التي تجذّرت حتى باتت جزءاً من الحياة العادية للناس وللنظام السياسي.
حتى أن بعض الدافعين نحو الانقسام والمشجعين له ذهبوا وظل الانقسام لم يتزحزح.
عموماً قد يكون من المجدي التفكير بالتغيرات الكثيرة التي طرأت وهي تغيرات لم تجر بالصدفة ولا كانت نتيجة تغير في المناخ، بقدر ما نتجت عن تشريعات وتبني قوانين وتطبيق سياسات ساعدت تدريجياً على تعميق الهوة بين المنطقتين الجغرافيتين اللتين تأسست عليهما الكيانية الفلسطينية المعاصرة بعد أوسلو.
وهذا بدوره بحاجة لدراسات جادة في الحقول المختلفة التي لابد أن تشمل القوانين المنظمة للحياة العامة في قطاع غزة وتقديم الخدمة في القطاعات الأساسية؛ لفحص مدى تأثير هذه التحولات على مؤسستين مختلفتين سيكون عصياً في المستقبل لم شملهما. العملية المعقدة التي ستتطلب إجراءات جديدة وسياسات جديدة ورؤية جديدة للتعامل مع واقع ما بعد الانقسام.
ومع مرور تلك السنوات العشر فإن من المحزن ألا تفكر مراكز الأبحاث والجامعات في عقد مؤتمرات بحثية تفحص هذه التحولات وتنظر في السياق الفلسطيني أبعد من مجرد تأمل الحالة السياسية التي أنتجها الانقلاب وما قاد إليه من انقسام.
والأكثر مرارة أن هذا لا بد أن يتم بعيداً عن التنظير الحزبي والرؤى الوعدوية والبلاغات الحماسية، إذ إن الأساس أن يكون ضمن السياق العام لبحث الواقع الفلسطيني المعاصر.
بالطبع ليس الانقسام مجرد تحول بسيط وحدث عابر في الحياة الفلسطينية، وعليه فإن تأمل تبعاته لابد أن يكون بكثير من الجدية التي يجب أن تفي بالغرض لا الجدية الاستعراضية.
ما أدعو إليه ليس نزع الدسم السياسي عن جلد الانقسام، بل دراسة تبعات الانقسام حتى نتعلم كيف يمكن لنا أن نتخلص من أدرانه.
الفلسطينيون يمكن لهم أن يعددوا الكثير من الإحالات الزمنية مثل أن نقول هذا العام هو العام العاشر للانقسام والعام الخمسون للنكسة والعامة المائة لوعد بلفور والعام الثلاثون للانتفاضة الأولى، كما يمكن لآلاف الأمهات والآباء أن يتذكروا في كل يوم بمرارة ذكرى أحبائهم.
ويظل على السياسيين أن يفحصوا مدى اقترابنا أو افتراقنا عن الحلول الخلاقة للخروج من نفق الانقسام.
ودون التفكير الجدي في مداواة آثار الجروح لا يمكن القفز على الحواجز، كما لا يمكن التفكير في المستقبل إن اعتقدنا أن الماضي قد انتهى فيما نحن نعيشه.
فبالقدر الذي لابد فيه من نزع الدسم السياسي عن المعالجات غير السياسية للسياقات التي ترتبت على الانقسام لابد من النظر بجدية للكثير من المفاعيل التي قادت إلى اللحظة التاريخية السيئة التي حدث فيها الانقسام.
والأهم ربما معالجة آلام تلك اللحظة التي مزقت النسيج الاجتماعي وجعلت أهل البيت الواحد أطيافاً وأحزاباً يحتربون.
مثلاً ألم يكم من حق من قُتل أبناؤهم في أحداث الانقلاب أن يعرفوا بشكل ما إذا كان قاتل أبنائهم المجرم الذي قتل الأسير المحرر مازن فقهاء قد تلقى تعليماته بقتل أبنائهم من ضابط المخابرات الإسرائيلية أم لا، لاسيما أن صورته كانت واضحة في حالات القتل ومشاركته مشهودة، فالقاتل كان أبرز وجوه حزيران 2007.
أليس من حق الناس أن يعرفوا ما مدى ارتباط ما قام به بعلاقته بالمخابرات الإسرائيلية.
إن مداواة جراح الماضي ضرورية للقفز نحو المستقبل، ودون تحقيق ذلك يظل الجرح يكبر في الروح حتى إن اختفت آثاره عن الجسد، لا يذهب.
الثقافة المطلوب تعزيزها هي ثقافة تسامح بلغة جديدة تعتمد على أن ما حصل لم يكن من الفتوحات المكية، بل كان خطأ جسيما يمكن التراجع عنه.
كما أن ما ترتب على ذلك ليس مقدساً. المقدس الوحيد هو المصلحة العامة، ولما لا شيء مقدسا غير ذلك فإنه يمكن إيجاد حلول لكل الأزمات التي تترتب على ما حدث.
دون هذه النظرة المتسامحة والقادرة على لملمة الجراح فإننا نواصل تسديد الأهداف في مرمانا فيما أسرانا يواصلون إضرابهم الملحمي، وأبناء شعبنا محاصرون في كل مكان والحلم يبدو أكثر بعداً من أي وقت مضى.
مرة أخرى لا شيء يمكن أن يستمر للأبد، وعلى الأشياء في لحظة تاريخية محددة أن تصل لنهايتها.
لكن المحزن أن نتمسك ونقاتل من أجل أن نحافظ على آفة الانقسام، ويصير البقاء عليه مصلحة عليا لا يمكن التنازل عنها.
فحياة الشعوب وخبراتها مليئة باللحظات التاريخية المشابهة التي انهارت فيها قلاع لم يكن أحد يعتقد أنها ستنهار يوماً.
لكن المحزن أن هناك من يدافع بخشونة عن مرضه: الانقسام، ومن هو مستعد للتضحية للإبقاء على السرطان الانقسامي فيه.
قضايا كثيرة بحاجة لمعالجات حتى لا يفوت الأوان، وحتى لا تكون هذه السنوات العشر جزءاً من مسيرة طويلة من الانقسام المرير، ولا يكون الحلم الوطني المستحيل الثامن، وحتى تكون السنوات العشر قد مرت فعلاً وانتهت، وبتنا في مرحلة جديدة، مرحلة ما بعد الانقسام.
أليس هذا هو الحلم الأكثر إلحاحاً بالنسبة لنا.