يوم أسود في القدس

thumb.jpg
حجم الخط

في الذكرى الخمسين لإحتلال القدس شهدنا ما تسميه دولة الإحتلال بيوم «التوحيد والتحرير»، حالة من الهيجان والطوفان لقطعان المستوطنين المستبيحة للمدينة ومسجدها الأقصى والتصرفات والممارسات العنصرية الإستفزازية من قبلهم والمدعومة من حواضنهم في المستويات السياسية والأمنية، حيث استغلت حكومة الإحتلال زيارة ترامب لها، وتأكيده حسب زعمه على عمق إرتباط دولة الإحتلال بمدينة القدس، وكذلك الزيارة التي قام بها الى حائط البراق، لكي يؤكد أحقية اسرائيل الدينية في هذا المكان، الذي يعتبر جزء من المسجد الأقصى منذ القرار الذي أصدرته اللجنة الدولية التي شكلتها عصبة الأمم من بعد ثورة البراق وحتى أخر قرار اتخذته منظمة العلوم والثقافة والتربية "اليونسكو" في 23/10/2016.

قادة دولة الإحتلال وكل متطرفيها مارسوا أكبر عملية تحريض بدعوتهم المستوطنين الى القيام بأكبر وأوسع عمليات الإقتحام للمسجد الأقصى والصعود الى ما يسمى «بجبل الهيكل»، وكذلك فعلت ما يسمى بمنظمات «إئتلاف الهيكل» والعديد من الحاخامات والمتطرفين...عمليات الإقتحام للمسجد الأقصى النوعية والكبيرة والواسعة من حيث الأعداد المقتحمة والطقوس والشعائر والصيحات والرقصات الإستفزازية ترافقت مع تحويل مدينة القدس الى ثكنة عسكرية، أغلقت فيها الكثير من الطرق وشلت حركة المواصلات في المدينة بشكل كبير، وتأثرت الحركة التجارية الإقتصادية فيها وبالذات في البلدة القديمة بشكل كبير أيضاً، حيث عصر يوم الإقتحامات ومع موعد بدء ما يسمى بمسيرة الأعلام أجبرت قوات الإحتلال أصحاب المحلات التجارية فيها على إغلاقها...وقد رافق عمليات الإقتحام للأقصى وتلك المسيرة الإستفزازية التي قام بها عشرات الالاف المستوطنين عمليات اعتداء على حراس المسجد الأقصى حيث أصيب واعتقل عدد منهم، وبالمقابل المسيرة الإستفزازية لأول مرة شرطة الإحتلال تسمح لها بالسير في الأحياء العربية من المدينة والسير على أسوار المدينة وأبوابها، وكان واضحاً فيها حجم الحقد والكراهية والعنصرية من طبيعة الهتافات التي جرى ترديدها مثل "مافيش فلسطين ....جبل الهيكل ....والصعود لجبل الهيكل...والقدس لنا إذهبوا الى غزة وغيرها من الشعارات العنصرية".

من خلال هذا التطور اللافت على صعيد حجم الإقتحامات للمسجد الأقصى أو الأعداد الضخمة المشاركة في هذه المسيرة، نرى بأن اسرائيل تريد استكمال مخططها التلمودي التوراتي بفرض سيادتها وسيطرتها الكاملة على المسجد الأقصى من خلال نزع الوصاية الأردنية عنه وعن المقدسات الإسلامية والمسيحية في المدينة، وكذلك إلغاء اشراف وإدارة ومسؤولية الأوقاف الإسلامية عنه، وهي تريد ان تستكمل سيطرتها و«سيادتها» على المدينة التي يتبجح قادة دولتها ويواصلون القول بأن القدس ستبقى موحدة وعاصمة أبدية لدولتهم، ولن تكون خاضعة للتفاوض في أي عملية سياسية قادمة، وقول نتنياهو بأن الأقصى وحائط البراق سيبقيان تحت السيادة الأبدية لإسرائيل في أي مفاوضات قادمة، يثبت الطبيعية العدوانية لهذا الكيان تجاه القدس والمسجد الأقصى وتجاه شعبنا الفلسطيني.

حالة الذل والهوان التي تعيشها الأمة والتي تكشفت من خلال القمم الثلاثة التي عقدت في الرياض مع الرئيس الأمريكي وإدارته، وكذلك زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة ودولة الاحتلال، وما تمخض عنها، عرّت الوضع العربي والإسلامي البائس، وشجعت الاحتلال على التمادي في عدوانه وإستهتاره بهذه الأمة، عندما تعلن وتوافق على الرؤيا الأمريكية بأن إسرائيل، ليست عدواً للأمة العربية، بل يمكن التنسيق والتعاون والتحالف معها، وكذلك تشريع وتطبيع العلاقات قبل أي وقف للإستيطان او الموافقة على تطبيق قرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية للسلام.والأبعد من ذلك الموافقة على تجريم النضال الوطني الفلسطيني وحركات المقاومة العربية واعتبارها إرهاباً فيما يخص حركة حماس وحزب الله اللبناني ومساواتها مع الجماعات الإرهابية التي أوجدتها وأستثمرتها أميركا وقوى الغرب خدمة لمصالحها وأهدافها في المنطقة أمريكا وقوى الغرب الإستعماري، القاعدة ومتفرعاتها من "داعش" و"جبهة النصرة" وغيرها من الألوية والتشكيلات الإرهابية الأخرى التي تمارس القتل والتدمير في سوريا وليبيا والعراق.

حصول ترامب والإدارة الأمريكية على كل شيء من العرب والمسلمين من أموال بمئات المليارات من الدولارات ومواقف سياسية هابطة وشروع في التطبيع وعلنية العلاقات مع إسرائيل دون أي مقابل، هو من يجعل قادة الاحتلال يتمادون اكثر فاكثر ويرفضون فكرة أي حل سياسي يقوم على أساس دولتين لشعبين رغم عدم عدالته لشعبنا الفلسطيني.

في الوقت الذي دفعت فيه المليارات للإدارة الأمريكية ، يبقى الدعم العربي والإسلامي للمدينة وأقصاها في أغلبه حبراً على ورق، وإن وصل شيء منه يبقى أصفاراً مقابل ما يدفع ويتبرع به للأمريكان، والذي جزء كبير منه يصل الى دولة الاحتلال على شكل أسلحة وقروض ومساعدات أمريكية.

في ظل حالة الضعف والإنقسام والتشظي الفلسطيني، وما تعيشه الأمة العربية من حالة انهيار وتردي وحروب مذهبية وطائفية وتغليب الهموم القطرية والخاصة على الهموم العربية العامة، فإن الاحتلال مستغلاً ذلك سيواصل حربه الشاملة على المدينة المقدسة على كل الصعد والمستويات وبمشاركة كل أجهرته وأدواته التنفيذية، وطبعاً في قلب ذلك المسجد الأقصى، ولذلك أرى بأن المواجهة والتصدي لهذا العدوان بنفس الأدوات والطرق التقليدية، عبر بيانات الشجب والإستنكار والدعوات والأدعية والتهديدات الفارغة والجوفاء" والهوبرات و"الزعبرات" الإعلامية، لن تحمي ولن تنقذ لا قدس ولا أقصى.

الإحتلال مستمر وماض في مشاريعه من تهويد وأسرلة في المدينة، بكل طاقات وإمكانياته، وبخطوات عملية متسارعة، وبالمقابل رغم كل جبروت وطغيان الإحتلال، سيستمر شعبنا واهلنا في مدينة القدس بما يمتلكون ويختزنون من طاقات وإمكانيات في التصدي والدفاع عن قدسهم ومقدساتهم، وهم لن يختفوا عن الوجود ولن يرحلوا، ولن ينجح المحتل في جعل فضاء هذه المدينة يهودياً وصهيونياً، وسيبقى فضاءها وتاريخها وحضارتها وأثارها ورموزها وشوارعها وازقتها تنطق بالعربية، وسيستمر رفع الأذان والصلوات من مأذن جوامعها وكنائسها، مهما حاول العدو ان يطمس ويغيير ويزور.