عاشر رمضان كريم يمر على وقوع الانقسام، ولا يزال رمضان كريماً. رمضان الأول العام 2007، كان مليئاً بالحقد، بالقتل والكراهية، كان رمضان الأول مليئاً بالخوف، خوف الأخ من أخيه، والابن من أبيه، خوف الزوجة الفتحاوية من زوجها الحمساوي.
وتوالت الأشهر الرمضانية وفي كل مرة تتعالى الدعوات، والصلوات، في الشهر الكريم، لكن الغيث يأبى النزول، على من بات كثير منهم يعتقدون بأن الشعب الفلسطيني كله إلى الجنة. هو وعد الإنسان لنفسه وذويه، لتبرير صبر طال أمده، ولم يعد مفهوماً استمراره، وربما لتعويض هوة سحيقة من الشعور بالملل، وفقدان الأمل، والإحباط، والشعور باللاجدوى من الانتظار.
عشرة أشهر رمضانية، كانت بطعم الصيام، بطعم الإمساك عن كل وأبسط ملذات الحياة، حتى الماء والملح، كما فعل أسرانا الأبطال.
عشرة أشهر غابت عنها الحكمة من وراء الإمساك عن الطعام والشراب، وسوءات اللسان، فلا الحاكم يشعر بمعاناة المحكوم، ولا الظالم يكفّ يده ولسانه عن المظلوم، ولا الغني أو ميسور الحال يشعر بمعاناة الفقير الذي لا يملك ما يرضي معدته. ثم يتطلع كل هؤلاء إلى أن تنزل عليهم الرحمة، بمجرد أن يجدوا مكاناً حتى لو كان في الشارع خلف المصلين، الذين يحتجزون المسجد خلال رمضان كله، فإذا برمضان يرفض هذا النفاق، وكل هذه الحفاوة الزائفة، ويواصل كرمه كما اعتاد عليه منذ عشر سنوات، لم ينتظر الناس في غزة، أن يكون هذا الرمضان، أفضل من الذي سبقه، بل ان الشعور العام السائد هو أن الأمور تتجه نحو المزيد من التدهور.
في السياسة تزداد الأمور سوءاً بين دفتي الوطن المحتل، حيث تختفي الدعوات بالخير، لتحل مكانها الاتهامات، والتخوين، والتهديد والتحريض. وقبل أسبوعين، سرت شائعات، بأن معبر رفح، سيتم تشغيله وفتحه، قبل رمضان، ثم انتقل الوعد إلى الأسبوع الأول من رمضان، على اعتبار أنه الشهر الكريم، غير أن الشائعات ذهبت في طريقها، ولم يبق منها إلاّ مرارة الحرمان.
سألت أحد موظفي الشؤون المدنية، حول إمكانية حصول بعض الأقارب في الضفة على تصريح زيارة لغزة، أو بالعكس، فأشاح بيده قائلاً، "انس الموضوع". وحين ذكرته بأن إسرائيل أعلنت عن تسهيلات خلال شهر رمضان، بدا وكأنه يريد أن يقول إن هذه التسهيلات ليست لسكان غزة، أو ربما أراد أن يقول إنها تشبه الدعوات، التي تنشد كرم الشهر الفضيل.
أسواق غزة طافحة، بكل أنواع البضائع، من فواكه وخضراوات، ومكسرات، ولحوم ودواجن طازجة ومجمدة، وطافحة، بالإكسسوارات الرمضانية، ولكن غزة طافحة بالحزن والفقر، وضيق ذات اليد.
أسواق غزة طافحة بكل ما تشتهي العين، والمعدة، وبأسعار متدنية، في متناول اليد حتى بالنسبة لذوي الدخل المحدود، ولكن القدرة الشرائية، ضعيفة جداً. تمر من أمام المحلات، التي تعرض بضائعها في الشارع عسى أن تجذب الأنظار، فتشعر أن أصحاب المحلات، يتوسّلون أن تلقي نظرة على بضائعهم.
أصحاب المحلات يمسكون بالمارة يرجونهم إلقاء نظرة، على بضائع، وضعت عليها أوراق كرتونية صغيرة تعلن عن تنزيلات كبيرة في الأسعار. الناس في رمضان يتجولون بعد صلاة العصر في الأسواق، التي تكتظ بالزوار، الذين جاؤوا لقضاء بعض الوقت، حتى لو عاد إلى البيت بكيس نايلون أسود، يحتوي على نعنع وفجل، وبقدونس، لا يزيد سعره على ثلاثة شواكل.
وفي السوق، يزداد عدد المتسولات، اللواتي يلبسن الجلابيب السوداء، ويخفين وجوههن، إلاّ من عيون مكحولة، بنقاب أسود، وكأنهن يعرضن شيئاً آخر، صبايا بعمر الورود، يتجولن في الأسواق، ولا يشير لباسهن ومظهرهن إلى الفقر أو التخلف، وعدم النظافة، يلححن في الطلب، وأخريات وآخرون، يحملون ورقة عليها بعض الأختام، يستعطف المارة، بأن ينظرون إلى الورقة، التي تقول إنه بحاجة إلى علاج، أو انه يتيم، والأعذار كثيرة. وتصدمك مشاهد الأطفال الذين يحفر الفقر، علاماته على وجوههم، وهم يقفون على مفترقات الطرق، أو أمام مخبز العائلات الشهير، يطلبون رغيفاً.
كانت الرواتب التي يحصل عليها موظفو السلطة قادرة على تحريك هذا الوضع وبالتأكيد ليس تغييره، لكنها بعد شهرين من الخصم، جعلت الفارق بين هؤلاء الموظفين وغيرهم بسيطاً، ولا يحدث فرقاً في شهر رمضان الكريم. بالمناسبة الفقر، يشكل في أحيان كثيرة، عاملاً إيجابياً في تغيير بعض العادات والتقاليد، التي تثقل على الناس، فالأرجح أن الناس تعذر بعضها بعضاً إزاء الواجبات الرمضانية المعتادة، وحتى إزاء الواجبات الاجتماعية المرهقة.
رمضان شهر التواصل والتوادد وصلة الرحم، والحمد لله، أن التكنولوجيا، وفّرت للناس وسائل سريعة، وغير مكلفة، في غياب القدرة على التواصل مع الرحم وغير الرحم، وربما كان في ذلك رحمة للعالمين، لأن التواصل الجسدي المباشر، مكلف بالتأكيد. هذا ليس كل شيء، ومع ذلك يبقى رمضان كريماً رغم أن الناس يحتاجون إلى موازنات مضاعفة، من دون احتساب ختامه بالعيد.
المؤسسات الأجنبية، تكتفي بالأرقام التي ترصدها وتدل على وجود الكارثة، لكنها لا تستطيع إحصاء الأنفاس المقهورة، والتحولات العميقة في البنية الاجتماعية والثقافية والنفسية. تكتفي المؤسسات بالأرقام العامة، وهي مخيفة بشأن حياة الناس في غزة، ولكنها لا تغوص في الآثار العميقة الناجمة عن تلك الأرقام الجافة، أما المسؤول الفلسطيني، فإما أن يعتبر ذلك قدراً، أو أن يعتبره جزءاً من تكاليف السياسة.