منذ سنوات طويلة لم تشهد إسرائيل تظاهرة لليسار تدعو لإقامة السلام بين إسرائيل وفلسطين، لكن ذلك حدث يوم السبت الماضي، حين تظاهر عشرات الآلاف من الإسرائيليين في تل أبيب تحت شعار «دولتان وأمل واحد» بمناسبة مرور خمسين عاما على الاحتلال الإسرائيلي لأراضي دولة فلسطين، استمعوا خلالها لكلمة من الرئيس محمود عباس.
ورغم أن انتخابات الكنيست العشرين التي جرت في إسرائيل العام 2015 شهدت عودة حزب العمل مجدداً للتنافس على رئاسة الحكومة، للمرة الأولى بعد نحو خمسة عشر عاما تفرد خلالها الليكود اليميني وحزب كاديما المنبثق عنه برئاسة الحكومة الإسرائيلية منذ العام 2001 حتى الآن، ورغم أن استطلاعات الرأي كانت تمنحه تفوقا على الليكود، إلا أن بنيامين نتنياهو بذل جهدا مضاعفا في الأيام الأخيرة التي سبقت يوم الاقتراع مثيرا الخوف في أوساط اليمين، بما مكّنه من قلب الطاولة والفوز مجددا برئاسة الحكومة.
وقد كان واضحا أن عودة العمل وإحياء روح التنافس مع اليمين الإسرائيلي، كانت لها علاقة بالسياسة المعتدلة التي تصر على عقد اتفاق السلام، التي تتبعها القيادة الفلسطينية برئاسة الرئيس عباس، خاصة بعد أن نجح بكنس مخلفات المواجهة التي جرت العام 2000 وعطلت العمل بأوسلو، لكن سرعان ما قام اليمين الإسرائيلي مستندا إلى تحول مهول باتجاه اليمين واليمين المتطرف في المجتمع الإسرائيلي، بعد اختفاء روح الكفاح من أجل السلام في أوساط دعاته واليسار الإسرائيلي بشكل عام، باحتواء محاولة عودة اليسار بعد فوزه العام 2015.
ومع الركود الذي بدأ منذ نيسان 2014، حين توقفت آخر جولة تفاوضية فلسطينية / إسرائيلية، استمرت الحال بما هي أسوأ، حيث انعدمت المعارضة السياسية - تقريبا، داخل إسرائيل، خاصة فيما يخص سياستها الرافضة، بل المعادية لحل الدولتين ولإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضي دولة فلسطين .
وظل الوضع هكذا، رغم ما كان يبديه جون كيري وزير خارجية باراك أوباما خلال ولايته الثانية في البيت الأبيض، رغم ما كان يتمتع به الرجل من عزيمة وإصرار، إلى أن وصل للإحباط الذي عبّر عنه بالإعلان صراحة قبل مغادرته منصبه بوقت قصير، من أن اليمين الإسرائيلي هو الذي يعطل العملية السياسية، ثم تحول الأمر إلى موقف رسمي حين امتنعت الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض - الفيتو - ضد قرار يدين الاستيطان الإسرائيلي في مجلس الأمن.
الغريب أن طبيعة التصويت الأميركي ذاك كانت محطة صراع انتخابي بين الحزبين الأميركيين المتنافسين على البيت الأبيض، حيث مارس حينها دونالد ترامب، وكان قد فاز بالرئاسة، لكنه لم يتسلّم صلاحياته بعد، ضغوطا هائلة وفي أكثر من اتجاه لمنع تقديم مشروع القرار للمجلس، ثم لإجبار إدارة أوباما على استخدام الفيتو.
وكان واضحا أن «الكيمياء الشخصية» بين أوباما ونتنياهو مفقودة، وقد اتضح الأمر في أكثر من مناسبة، لذا فان فوز ترامب بالرئاسة قد أثلج صدر نتنياهو ومجمل اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل.
لكن لأن حديث الانتخابات هو غير حديث السياسة، فقد بدأت إدارة ترامب تقترب شيئا فشيئا من ملفات الشرق الأوسط، ومنها الملف الفلسطيني وتقوم بتعديل البوصلة، إلى اتجاهها الطبيعي من جهة ومن جهة ثانية استغلال قوة الدفع التي ترافق مجيء إدارة جديدة لإعادة تحريك الملف العالق بشكل رسمي منذ 3 أعوام، ودون تحقيق منجز ميداني منذ العام 2000.
وكما كنا توقعنا، في مقالنا قبل السابق - هنا - فإن حقيقة أن الملف ذاهب للتحريك وإن عملية تفاوضية باتت أمرا مرجحا، بدأت بدفع نتنياهو لأن يفكر في «ضم» اليسار لحكومته، وذلك توقعاً لخروج حزب البيت اليهودي من الائتلاف الحاكم، والذي يرفض إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية أو الانسحاب منها.
بدا الحديث في إسرائيل عن ذلك واضحا، وبالترافق مع توافد المعلومات التي تقول إن قمة ثلاثية بين عباس - ترامب - نتنياهو ستعقد في واشنطن، لتعلن عن بدء التفاوض مع مطلع تموز القادم، سينعقد مؤتمر حزب العمل، الذي ما زال برنامجه الانتخابي العام 2015 يقول بضرورة الانفصال عن الفلسطينيين لتحقيق يهودية إسرائيل، لذا فان نتائج انتخابات الحزب بقدر ما ستثير فيه الحماسة والحيوية على وقع عودة التفاوض مع الجانب الفلسطيني، بقدر ما سيكون حديث شراكته الليكود في الحكم مدخلا لعودته الفاعلة في السياسة الإسرائيلية.
المشكلة التي ما زالت - بتقديرنا - قائمة، هي أن الإدارة الأميركية بحكم تداول الحكم، تحتاج دائما وقتا لتكتشف كنه الملف، لذا نجح نتنياهو - مثلا - في خداع ترامب بفيلم مفبرك عن الرئيس عباس، يظهره يعترف بأنه يحرض، لذا لا بد من الانتباه لأحابيل هذا الرجل الذي بدأ عهده بالحكم في إسرائيل كاذبا قبل نحو عشرين عاما، فصار بفعل عامل الخبرة والتجربة مخادعا بامتياز.
لكن قطار وضع حد للسيطرة المطلقة لليمين الإسرائيلي التي اقتربت من طي نهائي لملف الانسحاب ولحل الدولتين ومن تقديم بينيت كوريث لنتنياهو، قد بدأ، والأهم أن يترافق ذلك مع أداء فلسطيني سياسي محنّك ومتزن مترافق مع حراك شعبي على طريقة تظاهرة تل أبيب وكجواب مكمل لها، ويا حبذا لو تم إنهاء الانقسام، حينها لن يكون الأمل معقودا فقط على إجراء المفاوضات، بل وعلى نجاحها في التوصل لحل نهائي يحقق الهدف الفلسطيني بإقامة الدولة المستقلة.