بالرغم من كل ما قيل في وسائل الإعلام الإسرائيلية حول فشل إضراب الأسرى في تحقيق أهدافه وأنهم اضطروا لفك الإضراب بسبب دخول شهر رمضان أو بسبب ضغوط مزعومة من السلطة الفلسطينية أو لأسباب تتعلق بانقسام الأسرى، إلا إن الحقيقة الواضحة والثابتة في هذه المسألة هي نجاح الإضراب وتحقيق جزء مهم من أهدافه. وإذا أخذنا بالاعتبار رفض السلطات الإسرائيلية ممثلة في مصلحة السجون ووزير الأمن الداخلي غلعاد أردان التفاوض مع لجنة قيادة الإضراب طوال حوالي 40 يوماً واضطرارها للتفاوض معهم والتوصل إلى تسوية واتفاق لإنهاء الإضراب، فهذا بحد ذاته إنجاز يسجل للأسرى وتراجع كالمعتاد عن عناد ومكابرة الطرف الإسرائيلي. مع العلم أنه كان بالإمكان الجلوس مع لجنة الأسرى في الأيام الأولى للإضراب والتوصل إلى حل سريع ينهي الإضراب، خصوصاً وأن مطالب الأسرى كانت حياتية وإنسانية وسهلة وجلها يتعلق بأمور كانت لدى الأسرى في سنوات سابقة.
ليس واضحاً تماماً ما الذي تم بالفعل بالتفاصيل المتعلقة بموافقة مصلحة السجون على قسم من المطالب ومصير المطالب التي بقيت قيد الفحص، ولكن بالرغم من حالة الغموض هذه التي تستدعي فحص نوايا مصلحة السجون في الأيام القادمة. ولكن لا شك في قيمة ما حققه الأسرى، ليس فقط بالعلاقة مع مصلحة السجون واضطرار الأخيرة للرضوخ، بل وفي خلق تفاعل كبير بين الأسرى والشارع الفلسطيني وهو ما كان مفقوداً لفترة طويلة. صحيح أن هناك ملاحظات كبيرة على دور فصائل العمل الوطني وتعاطيها مع الموضوع، ولكن موضوع الأسرى فرض نفسه على الجماهير الفلسطينية وهذا كان واضحاً في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، وفي عدد من الفعاليات على الأرض مثل التلتزام الكامل والتام بالإضرابات، واستمرار خيم الاعتصام.
ويمكن القول أن موضوع إضراب الأسرى فرض نفسه كذلك على الأجندات الإقليمية والدولية وعلى زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمنطقة على الرغم من الاهتمام الذي حظيت به، والتركيز عليها في وسائل الإعلام. حتى أن ترامب نفسه شعر بهذه القضية خلال زيارته لبيت لحم وقد امتنع عن زيارة كنيسة المهد بسبب خيمة الاعتصام مقابل الكنيسة. كما أنه سمع في كلمة الرئيس أبو مازن كذلك عن أهمية أن تتم الاستجابة لمطالب الأسرى وأن ينتهي هذا الإضراب. كما أبرزت الصحافة العالمية هذا الموضوع، وتناولته الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية وحتى أعضاء من الكونغرس الأميركي توجهوا إلى الحكومة الإسرائيلية للتعاطي الإيجابي مع مطالب الأسرى. ناهيكم عن التفاعل العربي والإسلامي مع هذا الإضراب والتغطية الواسعة التي حظي بها في معظم الدول العربية والأجنبية.
لكن نجاح الإضراب واستمراره لمدة 41 يوماً كشف حقيقة صعبة ومقلقة تتعلق بالحركة الأسيرة التي كانت تمثل ثقلاً مهماً في النضال الوطني الفلسطيني بوحدتها ومساهماتها في القرار الوطني. فهذه الحركة على ما يبدو انتهت إلى غير رجعة . وما جرى يمثل تراجعاً خطيراً في نضال وإرث هذه الحركة. ولا يمكن أن تكون هناك حركة وطنية فعلية تتفرج على معاناة قسم من الأسرى ولا تبدي حتى نوعا من التضامن ولو الرمزي مع الزملاء والأخوة المضربين، فلو أخذنا رقم المضربين الذين بدؤوا الإضراب والذين أنهوه فنحن نتحدث عن حوالي 10% من مجموع الأسرى في سجون الاحتنلال. وأهم ما كان يميز الأسرى هو وحدة موقفهم وتضامنهم مع بعضهم البعض. وعندما ينتهي هذا لا يمكن أن نقول أن هناك حركة بالمفهوم الوطني للكلمة، وما تبقى هو مجموعات أو أفراد أسرى لكل واحد أو مجموعة منهم رأيه وموقفه ومعاييره الخاصة بعيداً عن الموقف الوطني العام.
ومن غير المقبول، أن يتعرض قسم من الأسرى لخطر الموت ولا نجد الأسرى الآخرين يتضامنون معهم ولو بالحد الأدنى ولو باضراب رمزي ولو بالتعبير عن موقف يضع مصلحة السجون أمام مسؤولياتها. والحقيقة أن السلطات الإسرائيلية استغلت الموقف وضغطت على المضربين إلى أقصى درجة ممكنة وراهنت على عدم قدرتهم على الاستمرار باعتبارهم أقلية تتفرج عليهم الأغلبية. فغابت غالبية أسرى "فتح" كما امتنعت حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" عن المشاركة في الإضراب. والسؤال هنا كيف يشعر هؤلاء جميعاً اليوم بعد نجاح زملائهم في إثارة موضوع الأسرى ومطالبهم وظروفهم وكل قضيتهم. هل أن كل مجموعة من الأسرى تعيش لوحدها بظروف خاصة بها أم أنهم جميعاً يخضعون لنفس الظروف والشروط السيئة أو الإيجابية حتى فعل الإضراب؟ ولمن لا يعرف الواقع في السجون فالشروط هي نفسها في كل السجون والتمايز إن وجد هو بسيط وثانوي. وهذا عملياً يلقي بظلال المسؤولية الأخلاقية والعجز على كاهل الأسرى الذين كانوا في حالة تفرج على إخوانهم وزملائهم، ولم يعد لأي شعار يتعلق بوحدة الأسرى أي قيمة أو مضمون. ولقد سقطت الحركة الأسيرة في اختبار الجدارة كما هو حال الحركة الوطنية خارج الأسوار، وهذا وضع يستدعي إعادة دراسة فكرة وجود حركة أسيرة أو الاستمرار في العيش كفرق وأفراد لا يربطهم سوى الوجود معاً خلف القضبان.