تضع «حكومة حماس» الفلسطينيين والعالم بين خيارين لا ثالث لهما: إما تأييد إعدام المتهمين باغتيال مازن فقها بلا تدقيق، أو الاتهام بالدفاع عنهم وبالطبع الاتهام بتبرير عمالتهم لإسرائيل. المسألة لا تستقيم على هذا النحو الفج: نبدأ من الثقة المفقودة منذ زمن طويل بين «حماس» كتنظيم وكسلطة وبين الفلسطينيين، والتي ترسخ فقدها بسبب سهولة توزيع حماس وأجهزة حكمها التهم على خصومها والمختلفين معها، والتي كانت حماس ذاتها تنساها أو تقفز عنها ويتبين أنها تهم موسمية سيقت لحاجة موقتة لا غير.
لم يختلف الفلسطينيون يوماً على أمر سياسي يمس حياتهم كما يختلفون اليوم، خصوصاً أنهم أفاقوا فجأة على إعلان من حكومة الأمر الواقع يزف لهم بشرى القبض على القتلة، ثم الإعلان بعد ذلك عن إعدامهم بما يشبه احتفالاً قيل أن حماس وزعت على البعض بطاقات لحضوره.
ذلك طقس لا يشبه العدالة ولا تشبهه، فلا أحد يثق بأن من وقع عليهم القصاص هم القتلة ولا هم نالوا حقهم الطبيعي في محاكمة عادلة وعلنية، أو على الأقل يحضرها حقوقيون موثوقون ولجان من المجتمع المدني. فلا أحد يضمن أن لا تكون السرية غطاء لاتهام الخصوم السياسيين متى وجدت حماس حاجة الى ذلك.
تثير الدهشةَ والريبة االسرعةُ التي أعلنت فيها داخلية حماس اكتشاف المجرمين ثم القبض عليهم والحكم بإعدامهم وما قيل عن أن بعضهم كان من التنظيم العسكري لحماس. كان من المنطقي والمألوف في مثل هذه الجرائم، أن تنعقد لمحاكمتهم محكمة مغايرة تماماً لتلك المحكمة الخفية، والتي لم يحضر جلساتها أحد، بل لم يسمع أحد بتفاصيل ما جرى فيها. ذلك في المشهد السياسي الفلسطيني يكرس كل ما هو «طارئ» واستثنائي من قوانين، ما يساهم في استمرار التوتر الاجتماعي، ناهيك عن مساهمته في تكريس الانقسام، إذ تحتاج أحكام الإعدام قانونياً الى مصادقة رئيس السلطة الفلسطينية عليها وهو ما لم يحدث، إضافة الى غياب السلطة الكامل عن التحقيقات بداية ثم عن المحاكمة، ما يجعل ما تأسس على باطل باطلاً بالضرورة. من يعود بالذاكرة اليوم الى شريط الأحداث السياسية في غزة منذ الساعة الأولى لانقلاب حماس، يتذكر كمّ الاتهامات بالخيانة والعمالة التي كيلت لقادة ومسؤولي السلطة وحركة فتح، والتي بدأها يومها سامي أبو زهري من أمام مبنى الأمن الوقائي، معلناً النصر على اللحديين على حد تعبيره.
لا بد من محاكمة عملاء إسرائيل وجواسيسها في غزة والضفة وفي فسطين كلها، ولا بد أن تكون هذه المسألة أولوية للسلطة والقوى السياسية والمجتمعية على اختلافها، من أجل حماية الشعب والمؤسسات والمسيرة الوطنية والسياسية، لكن نبل ذلك وأهميته لا يجوز أن يبررا اللهوجة واستسهال تنظيم المحاكمات وإصدار الأحكام على عجل، خصوصاً أن تهم الخيانة العظمى لا تطاول مرتكبها وحده بل تطاول معه أبناءه ووالديه وأفراد عائلته في مجتمع لا تزال لعلاقاتها العائلية مكانتها ودورها.
ذلك ما يجعل الحاجة ماسة الى أخذ هذا النوع من الجرائم وما يتبعها ويترتب عليها من محاكمات على محمل الجد، بجعلها محاكم علنية أو شبه علنية ومستوفية لأركان المحاكم الحقيقية وشروطها العادلة، ومنها توفير هيئة دفاع مستقلة يقبل بها المتهمون.
أما من دون ذلك، فتظل القرارات غير موثوق بعدالتها وبعيدة من القدرة على إقناع أحد، بل تظل عرضة للشك في أنها تأسست على غايات سياسية، حتى لو لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة والواقع.
عن الحياة اللندنية