حالة من الإرباك والتخبط تمر بها حركة حماس ،وإن كنا نتمنى أن تكون هذه الحالة تعبيرا عن حالة مخاض لولادة حماس جديدة أكثر استعدادا للاعتراف بأخطائها ،وأكثر قُربا وتصالحا مع الوطنية ،إلا أن تضارب واستفزاز تصريحات بعض قيادات حماس وغياب مؤشرات التغيير الإيجابي على أرض الواقع ، كل ذلك يُشير إلى أن الحركة تعاني من خلافات داخلية كبيرة وما زالت في حالة فقدان توازن ولم تفارق مربع المراهنة على أطراف خارجية .
نُدرك أن تَحوّل أو تغيير المنطلقات والثقافة السياسية لحركة عقائدية ليس بالأمر السهل ، وخصوصا أن حركة حماس وعلى مدار ثلاثة عقود وهي تربي أبناءها تربية فيها استعلاء واستعداء واستخفاف بالوطن والوطنية ،بالتاريخ الوطني والرواية الوطنية والهوية والثقافة الوطنية ،وبكل قيادات العمل الوطني ،ولكن وبعد اتضاح الحقيقة وانكشاف المستور وجريان الرياح بعكس ما كانت تتمنى حركة حماس ،لم يعد هناك مجال للمكابرة واستعمال خطاب متعالي ومُدجج إما بعبارات ومواعظ دينية لا تخلو من سذاجة و استخفاف بالعقول كالحث على الصبر الصمود أسوة بصبر الرُسل والأنبياء والصالحين! أو التهديد والوعيد ليس فقط لإسرائيل والتهديد بحرب جديدة معها بل ولخصومها الوطنيين ولكل من يشكك بشرعية حركة حماس وبقدرتها على الحكم والسلطة .
كنا نتمنى من حركة حماس أن تتعلم من التجارب التاريخية للشعب الفلسطيني مع المشاريع والأجندة العربية والإقليمية والدولية ، وضرورة الحفاظ على استقلالية القرار الوطني المستقل وأهمية الوحدة الوطنية ،بعد سنوات من تحويل حركة حماس الساحة الفلسطينية لحقل تجارب لمشاريع إقليمية وإسلاموية دفَّعت الشعب والقضية ثمنا باهظا .
لقد اعتقد البعض في حركة حماس ومن يؤيدها وعن حسن نية أن الحلفاء الذين راهنت عليهم في خضم ما يسمى الربيع العربي – إدارة أوباما والإخوان المسلمين وقطر وتركيا – يمكنهم أن يكونوا عونا لبرنامج المقاومة أو بديلا عن الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير والمشروع الوطني ، كما اعتقد هؤلاء حسني النية أنه بسيطرة حماس على القطاع يمكنها تحويل القطاع لقاعدة ومنطلق لمشروع المقاومة لتحرير بقية فلسطين وأن يُنجزوا بالمقاومة ما عجزت عن إنجازه المفاوضات وعملية التسوية !.
ولكن ،ولأن السياسة لا تقوم على حسن النوايا بل على قرارات وخيارات عقلانية وعلى موازين قوى تشكل الوحدة الوطنية أهم عناصرها،فقد جانب الصواب حركة حماس بداية عندما قرأت خطة شارون للخروج من قطاع غزة عام 2005 وتعاملت معها وكأنها هروب الجيش الإسرائيلي من غزة وانتصار للمقاومة وبالتالي انتصار لنهجها في مقابل فشل نهج التسوية والسلام !، وأخطأت حركة حماس عندما فسرت فوزها بالانتخابات التشريعية 25 يناير 2006 وكأنه تفويض لها لقيادة الشعب الفلسطيني وتجاوز منظمة التحرير ، وأخطأت حركة حماس عندما اقدَمت على انقلابها والذي روجت له كحسم عسكري مع رافضي نتائج الانتخابات ، وهؤلاء كانوا موجودين ولا شك ولكن ليسوا هم السبب الحقيقي وراء ما أقدمت عليه الحركة ،وأخطأت حركة حماس عندما استمرت في تأكيدها على تبعيتها لجماعة الإخوان المسلمين التي ربطت نفسها بالسياسة الامريكية لصناعة (الفوضى الخلاقة) .
نعم ،لقد أخطأت حركة حماس عندما رهنت القضية الفلسطينية بمواقف دول وحركات عقائدية تقاطعت مصالحها لحظيا مع سياسة الحركة ، وتجاهلت هذه الأخيرة أن الدول تتصرف انطلاقا من مصالحها القومية وليس على أسس أيديولوجية أو عاطفية ،والمصالح والسياسات تتغير وتتبدل . وهكذا انكشفت هشاشة تحالفات حماس ومراهناتها عندما سقط حكم الإخوان في مصر بسقوط / إسقاط محمد مرسي وفشل الجماعات الإسلاموية وانكشاف حقيقة مواقفها وسياساتها في كل العالم العربي ،وفشلت مراهنات حركة حماس عندما جاء الرئيس الامريكي ترامب برؤية مختلفة عن رؤية اوباما الذي وظف جماعة الإخوان المسلمين لتنفيذ سياسة (الفوضى الخلاقة ) وإثارة الفتنة في المنطقة ، وارتبكت وانكشفت حركة حماس عندما تصالحت تركيا مع إسرائيل ، وتأزمت حركة حماس عندما انحازت دولة قطر وتركيا لمصالحهما ولدورها الوظيفي في المنطقة وجارتا الرئيس ترامب في موقفه المعادي للإخوان المسلمين والمنقلب على سياسة سلفه .
و فوق كل ذلك وبسبب كل ذلك فشلت حركة حماس في إدارة وتدبير الأمور في قطاع غزة على كافة المستويات ،فعم الفقر والبطالة والتسول والفساد واليأس والإحباط بشكل غير مسبوق ، وتدهورت شعبية حركة حماس في القطاع بشكل كبير وأصبحت أمام اختبار وتحدي صعب بعد فشل كل رهاناتها .
إن كنا نتمنى أن تنجح الحركة في الاختبار وتتصالح مع الشعب والحركة الوطنية وتعترف بأخطائها ، والاعتراف بالخطأ فضيلة ، إلا أن تصريحات كثير من قادتها توحي على عكس ذلك ،بل وتُنذر باستعداد الحركة للمراهنة على أي منقذ خارجي إلا المنقذ الوطني .