< العلاقة بين الشقيقتين وثيقة، فشقيقة الصداع المزمن يصعب علاجها، وشقيقتنا قطر أيضاً في ظل سياساتها وارتداداتها وتحالفاتها يصعب علاجها، إذاً نحن أمام اختبار صعب، فإما أن نتحمل آلام الشقيقتين أو أن نسعى إلى علاجها ونتعايش معها.
ترى هل كان أمير قطر الشيخ تميم بن حمد وحكومته بحاجة إلى الهرولة شمالاً وجنوباً بحثاً عن وساطات مع المنظومة الخليجية لحل الإشكال الذي قاد المنطقة لهذا المنعطف الخطير؟ لا أعتقد ذلك، لكن طالما أنه خياره فمن الضروري التذكير بأن بوادر الحل لأية أزمة تتطلب أن تكون هناك رغبة صادقة، كما تتطلب أن يدفع المخطئ الثمن، والوساطات عادة لتخفيف حدة التنازلات والحفاظ على ماء الوجه، أما أن تكون للإيحاء بالحرص والرغبة فقط من دون وجود هذه الرغبة فعلياً، فهنا تولد الوساطة ميتة.
الكويت التي استضافت الشيخ تميم، تدرك أن وساطتها لن تجدِ، لذلك فهي مع تميم بأن الموقع اخترق، ومع دول مجلس التعاون بأن التصريحات التي صدرت عن الموقع تشكل خطورة على الخليج وأمنه، وطالما هذا هو الحال فلن تنفع أية وساطة مهما بلغ ثقلها، فليس مريحاً لقطر أن تكون بموضع اتهام، ولا مريحاً أن تعمل للتغريد خارج السرب، والأمر كذلك بالنسبة لدول المجلس، فلن تقبل تلك الدول أن يكون بينها من يطعنها من الخلف، وأيضاً لن تقبل بالضرر الذي سيلحق الأسرة الخليجية جراء هكذا سياسات.
أمير قطر في تصريحاته محل الخلاف كان يقصد السعودية في أكثر من موقع، وتصريحاته حملت إساءة لها غير مرة، وهذا أمر لا يحدث للمرة الأولى بغض النظر عن صحته من عدمه، لكن الإشكالية لا تكمن في تصريح «عابر» عبر وكالة الأنباء القطرية، وإنما سياسة في مجملها لا تراعي المصالح الخليجية ولا العربية ولا الأمن والسلام العالميين على الأصعدة كافة، سواءً في ما يتعلق بالعمق العربي مصر أو ليبيا أو حتى في سورية واليمن، والسلسلة تطول لتشمل العراق ولبنان ومواقع أخرى لم يتم تسليط الضوء عليها بعد، ولا أعتقد أن حكماء الخليج أثارتهم «التصريحات» بقدر السياسة القطرية التي لا تحقق المصالح العليا المشتركة التي يتفق عليها القاصي والداني في الخليج وخارجه.
ففي الوقت الذي كانت فيه الرياض تسعى جاهدة لإنشاء تحالفات إسلامية وعربية مع الدول العظمى لتحقيق أمن وسلام المنطقة وحل الإشكالات والنزاعات القائمة كانت الدوحة اللاعب الرئيس في بعثرة الأوراق يميناً وشمالاً، فبعد يوم واحد من وجود الرئيس الأميركي دونالد ترامب في العاصمة السعودية قامت الدوحة من حيث أرادت أو لم ترد أن تدق أسفيناً في نجاح التحالفات الساعية لأمن المنطقة بقصة «اختراق» أربكت المشهد، ولم تفلح السياسة القطرية اللاعبة في أماكن عدة في لملمة الأوراق مع أقرب الأقربين وهو ما يثير الاستغراب والدهشة.
ما لم تستوعبه الدوحة أو لم ترد استيعابه ولا تريد الاقتناع به أن السعودية لا تبحث عن أي عداءات، وإنما تبحث عن تحقيق السلام، وحتى عندما أعلنت عن التحالف العربي أوضحت بعبارات صريحة أن حرب اليمن هي «مكره أخاك لا بطل»، فالهدف من تلك الحرب إعادة الشرعية وتمت بموجب قرار أممي، وفي سورية لم تشعل السعودية الحرب هناك، بل إنها لم تتدخل في البداية حتى دُفعت لذلك لغرض حماية الشعب السوري، وفي العراق لم يكن للسعودية أي دور تخريبي، بل كانت تحاول على الدوام العمل على إعادة بناء الدولة، ولم يسجل أن المملكة شجعت على إقامة الميليشيات، قس على ذلك جميع المناسبات الأخرى بما فيها فلسطين كقضية رئيسة، فقد كان دور السعودية متأنياً على الدوام، لأنها لا تريد أن تكون شريكة في إشعال أية فتنة، وبخلاف ذلك وهو الأهم فقد أثبتت السياسة السعودية حسن نواياها، فلا أطماع احتلال لديها، ولا نيات للتوسع في أراضي الدول الأخرى، سواء كانت لديها قواعد أجنبية أم لم تكن.
السعودية تسعى إلى لم الشمل وتبني استراتيجية مع أكبر دول العالم من دون التصادم مع روسيا، وهذه الاستراتيجية يتضح فيها هدفان، أولهما أن الخطر أصبح واضحاً وصريحاً في المنطقة، والثاني أن هناك شفافية لدى المجتمع الدولي الذي كان يكيل الاتهامات للسعودية في شكل غير مسؤول سواء بالإرهاب أم لأدوارها في المنطقة. إذاً وأمام هذه المعطيات كلما اتحد أبناء مجلس التعاون كلما كانت السعودية أقوى بهم، وكانوا هم أقوى بها، وهذا بلا شك سينعكس على أمن واستقرار الجميع، وإذا ذهبنا مع الحالة الحاضرة حول تصريحات أمير قطر وتكذيبها بـ«رخاوة» غير مسبوقة، فإن ما قاله في اتصاله بالرئيس الإيراني كان يدور في نفس الفلك والاتجاه، بل يفوق التصريحات المنفية من ناحية الخطورة على أمن الخليج، علماً بأنه لم يتضمن جديداً باستثناء السعي لاستفزاز السعودية والخليجيين فقط، فالرياض هادنت طهران كثيراً، والملك سلمان قالها وكررها، إننا قدمنا مبادرات كثيرة، لكن الرد الإيراني كان سلبياً، لذلك الحراك القطري الحاصل أظهر محاولات لخرق الاستقرار السعودي في الوقت الذي قامت فيه السعودية بجهود جبارة لمحاربة الإرهاب وإقناع الآخرين بالوقوف في صفها ضد الإرهابيين، وبالتالي فلا مجال لأي طرف في منطقة الخليج للتراخي في تحقيق هذا الهدف، كما أنه لا حاجة لقيام أي عضو بمجهود آخر أو السعي لتأسيس محور آخر، ظناً منه أن ذلك من مصالحه أو قد يمنحه دوراً في المستقبل.
المنحى الذي اتخذته الدوحة وإصرارها عليه يلمح إلى عزمها تبني محور جديد، رموزه إيران وتركيا، ومعهم قطر بطبيعة الحال، والسؤال: ما الذي يدفع قطر لهذا الاتجاه؟
لا شك في أن الإجابة عن هذا السؤال من أكثر الإجابات صعوبة، لكن الأرجح هنا هو طمعاً في دور تمنحه لها طهران في المنطقة، لكن الإشكالية العصية على الفهم هنا، ما هو هذا الدور، وما الفائدة التي ستعود عليها؟ بخلاف «التبعية السياسية» للولي للفقيه.
ما تتجاهله قطر أن منطقة الصراع مع إيران لا يمكن اللعب فيها، والمنطقة أيضاً غير مستعدة للانفتاح على إيران المتعصبة مذهبياً والداعمة للإرهاب سعياً للهيمنة والتوسع، ولعل الحملة التي نشهدها ضد قطر هذه الأيام تؤكد أنه لا مجال للتلاعب بأمن الخليج، وأعتقد أنه ليس من المناسب ترك قيادة الأزمة الحالية للإعلام، لأنه لا يمكن أن يعالج المشكلة، وإنما بالسياسة فلا بد أن يكون هناك حوار وعمل استراتيجي أهدافه وأدواته جميعها تصب في أمن الخليج وعدم السماح باختراقه، فالتعنت القطري اليوم لا يمكن أن يعالج المشكلة، بل إنه يخدم إيران ولن تجني منه قطر أي شيء، فالتحدي والمكابرة يجب أن تكون لمصلحة المنطقة لا لمصلحة أعدائها، وإذا كانت قطر ستواصل نهجها بحثاً عن النفوذ من خلال المناكفة وتأسيس الميليشيات والفصائل المسلحة، فحقيقة لا أعلم ما الذي ستجنيه من ذلك النفوذ، وأثق بأن القطريين أيضاً لا يعلمون.
عن الحياة اللندنية