ستظل قمة الرياض من القمم الاستثنائية فى تاريخ العلاقات الدولية والإقليمية, ليس فقط لأن دولة عربية إسلامية كانت المحطة الأولى فى الزيارات الخارجية التى يقوم بها رئيس أمريكى فور توليه السلطة بخلاف القواعد المستقرة, ولا لأنها اتسعت فى لقاءاتها من المستوى الثنائى والخليجى إلى المستوى العربى والإسلامى ككل, ولكن وهو الأهم لأنها قد تمثل نقطة تحول فارقة سيتحدد على أثرها مستقبل الشرق الأوسط أوالنظام الإقليمى فى صورته الجديدة.
النتائج السريعة والمباشرة للقمة تمثلت فى عقد أضخم صفقة سلاح بين السعودية والولايات المتحدة (110 مليارات دولار ستصل إلى ما يزيد على 300 مليار خلال عشر سنوات) وأخرى لا تقل عنها فى الجانب التجارى والاستثمارى, وهى بالطبع صفقات لا تدور فى فراغ سياسى, وإنما تؤخذ كمؤشر على إعادة صياغة التحالفات والأهداف فى إطار من المصالح المتبادلة بين الطرفين, والتى ستنعكس آثارها بالضرورة على كل دول الإقليم.
قبيل القمة تحدثت مصادر فى البيت الأبيض ومعها كبريات الصحف الأمريكية (واشنطن بوست, وول ستريت جورنال) إضافة إلى الإندبندنت البريطانية, عن مشروع كبير يهدف إلى بناء تحالف عسكرى بين الدول السنية تحديدا التى تستشعر خطرا من تمدد النفوذ الإيرانى الشيعى فى المنطقة ويتشكل فى الأساس من الدول المعتدلة (السعودية ومصر والأردن والإمارات) ثم تلحق بها تباعا دول خليجية أو عربية أو إسلامية أخرى, أى على غرار حلف «الناتو» وأن صفقات السلاح العملاقة التى ستحصل عليها السعودية ستؤهلها لأن تكون القوة المركزية للحلف المقترح, الذى ستقدم له الولايات المتحدة جميع أشكال الدعم ولكنها على عكس موقعها فى الناتو لن تصبح عضوا فيه. وهى نفس المعلومات التى أكدتها مراكز الأبحاث الأمريكية القريبة من صناعة القرار, وإن أرجع بعضها الفكرة إلى نهاية التسعينيات وأشار البعض الآخر إلى محاولة شبيهة طرحت فى 2015 كان من المفترض أن تشمل المغرب والسودان, وأخيرا أكدها الجنرال مايكل فلين عقب إقالته من منصبه كمستشار للأمن القومى فى إحدى جلسات الاستماع بالكونجرس. المعروف أن حلف الناتو (منظمة حلف شمال الأطلنطى) الذى تأسس فى أعقاب الحرب العالمية الثانية بموجب معاهدة واشنطن (إبريل 1949) ضم فى البداية مجموعة من دول أوروبا الغربية ومعها الولايات المتحدة التى تمتلك القوة العسكرية الكبرى داخل الحلف, ثم اتسعت العضوية تدريجيا حتى وصلت إلى 28 دولة ليصبح أكبر منظمة دفاعية فى العصر الحديث, وأنه فى بداياته كان موجها فى الأساس ضد عدو واحد رئيسى هو الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو إبان الحرب الباردة, قبل أن يتفكك الأخير وتنضم أغلب دوله إلى الناتو. ورغم أن الهدف الأول كان حماية أعضائه من أى خطر أو اعتداء محتمل يهدد أمنها (الاعتداء على أى دولة فى الحلف هو اعتداء على باقى الأعضاء بموجب المادة الخامسة من معاهدة واشنطن) إلا أن الأمر امتد إلى حفظ الأمن والاستقرار العالمى، وهى المهمة التى أعطته حق التدخل العسكرى فى أى بقعة من العالم سواء بتفويض من الأمم المتحدة أو منفردا, مثلما حدث فى البوسنة والهرسك وكوسوفو وفى أفغانستان وليبيا وغيرها.
الواقع أن خطاب ترامب فى قمة الرياض جاء متناغما تماما مع هذا التصور, حيث ركز بشكل رئيسى على إيران بإعتبارها المهدد المباشر للأمن والاستقرار الدوليين والإقليميين ومنبع الإرهاب فى العالم منذ الثورة الخومينية, وبالتالى فهى الهدف المشترك الذى ينبغى أن تتوحد الجهود لمواجهته, لذلك -وعلى النقيض من سلفه أوباما- فقد أعلن تأييده للحرب التى تخوضها السعودية فى اليمن ضد الانقلاب الحوثى المدعوم من طهران، وفيما يتعلق بالحرب على الإرهاب ضد التنظيمات السنية المتطرفة (داعش والقاعدة وما يتفرع عنهما) طالب بصراحته المعهودة الدول الإسلامية بتحمل هذا «العبء» أى تكاليف تلك الحرب.
باختصار, إذا كانت فكرة «الناتو العربى» المدعوم أمريكيا مطروحة بهذه الجدية, فثمة ملاحظات أساسية تثيرها:
أولا, أن تركيز الإدارة الأمريكية بشكل شبه أحادى على إيران كداعم رئيسى فى تجنيد وتسليح وتدريب الإرهابيين دون تسمية دول أخرى تُسهم على الجانب المقابل فى القيام بنفس الدور أو توظيف الجماعات السنية المسلحة فى حروب بالوكالة, يحمل قدرا من الانتقائية, وهو ما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى خطابه بنفس القمة حين أشار إلى (عدم إمكان اختصار المواجهة على مسرح عمليات واحد دون آخر) وأن هناك دولا بعينها توفر الغطاء السياسى لتلك الجماعات (كجماعة الإخوان التى لم يشر إليها الجانب الأمريكى من قريب أو بعيد) أو تشترى من بعضها الآخر البترول الذى تستولى عليه من مناطق تمركزها (مثل داعش).
ثانيا, إن نجاح أى حلف عسكرى يرتبط ارتباطا وثيقا بالوحدة السياسية والتوافق بين الأنظمة الحاكمة بحيث تتفق على تعريف موحد للأمن القومى ومصادر التهديد والتحديات التى تواجهه, أى لابد من رؤية مشتركة تسبقه, وهذه هى الخبرة الأولية لحلف الناتو, والتى لا تبدو متوافرة إلى الآن, وتكفى الإشارة إلى تصريحات أمير قطر التى دافع فيها عن إيران مناقضا ما جاء بقمة الرياض, قبل نفيه لها احتواءً للأزمة التى قد تنشب مع المملكة.
ثالثا, إذا كانت الولايات المتحدة هى القوة العظمى التى ستدعم مثل هذا الحلف فالمفترض أن تكون مواقفها وسياساتها متناغمة مع جميع أطرافه الإقليمية, وهو شرط مازال غير قائم, على سبيل المثال تعتبر مصر أن كلا من تركيا وقطر تنتهجان سياسات مناهضة لها ورغم ذلك أشاد بهما ترامب فى معرض خطابه حيث قال نصا (إن استضافة قطر للقاعدة المركزية الأمريكية يجعلها شريكا إستراتيجيا حاسما) مثلما أثنى على دور تركيا (لاستضافتها العدد الأكبر من اللاجئين السوريين).
رابعا, ما يتعلق بموقف روسيا, وهى القوة الدولية الفاعلة فى المنطقة, والتى سارعت بمهاجمة الفكرة برمتها, بل واعتبرتها مُفضية إلى مزيد من التوتر والحروب فى المنطقة خاصة مع استمرار تحالفها مع إيران, وليس خافيا أن الدول المفترض تأسيسها الحلف الجديد لا تقف على مسافة واحدة منها. بعبارة أخرى هناك الكثير من العمل قبل أن تتحول فكرة الناتو العربى إلى واقع فعلى.
عن الاهرام