تقوم أطروحة "صراع الحضارات" على حتمية صِدام وتناحر الدول والشعوب والقوميات بسبب الاختلافات الثقافية، التي اعتبرتها المحرك الرئيس للنزاعات بين البشر، وتفترض أن الحضارات لن تلتقي فيما بينها، بل ستظل في حالة صراع وعداء دائم. فإلى أي مدى هذه الأطروحة صحيحة؟!
لو نظرنا لأية حضارة أو دين أو قومية بصورة كلية عمومية سنتوهم بأنها كتلة صماء متجانسة.. وهذا وقوع في شراك الديماغوجيا والتضليل والشعارات الأيديولوجية، أو الجهل على الأقل؛ لأنها ليست على ما تبدو عليه في الظاهر.. في الحقيقة يصعب الحديث عن أية حضارة أو قومية باستعمال توصيفات عمومية، حيث يوجد فيها واقع تاريخي متشابك ومتنوع لا يحتمل التصنيف، ولا يجوز تنميطه أو تثبيته في قوالب جاهزة؛ والعالم أجمع (كما وصفه إدوارد سعيد): "بكل دياناته وحضاراته يسبح في محيط واحد، هو التاريخ الإنساني، ومن العبث محاولة حرثه أو تقسيمه بالحواجز. ولو نظرنا داخل كل حضارة، وبتحليل حركتها ومساراتها سنجد فيها أوجها عديدة من التعايش والتعددية، والحضارات نفسها ليست كيانات منغلقة عن بعضها البعض، بل تتداخل في أحشائها وفيما بينها التيارات والتيارات المعاكسة لتشكل معا تاريخ الإنسانية، وتمنع هذا التاريخ عبر القرون المتوالية من الاقتصار على الحروب الدينية والإمبريالية، بل أن يكون أيضاً مجال للتعاون والإخصاب المتبادل والمشاركة، فالحرب ليست وحدها هي الحقيقة".
بمعنى آخر، التاريخ لا يصور لنا لقاءات الشعوب والدول ببعضها إلا عبر الحروب، وهذا غير صحيح، إذ كانت هناك دوما حالات مصاهرة وتحالف بين القبائل والشعوب، وهجرات سلمية، وتجار، ومغامرون، ورحالة، وباحثون، ومبشرون، ولاجئون هاربون من أوطانهم، إما بسبب كوارث طبيعية أو من حروب أهلية.. كل هؤلاء كانوا يلتقون معا بطرق سلمية، ويتعايشون بوئام.. لم تكن العداوة قدرهم المحتوم..
حتى عندما كانت تشتد المعارك ويحتدم العداء وتشتعل الجبهات.. كان دوما على طرفي الصراع أناس رافضون للحرب، تواقون للسلام.. وحتى في الجهة المعتدية يوجد من هم رافضون للظلم.. وهؤلاء ليسوا أقلية كما يتوهم البعض، هم غالبا الأكثرية.. حتى لو كانت أكثرية صامته، وسلبية، ومتفرجة.. لكنهم على الأقل لا يمثلون الجانب الشرير.. بل وفي كثير من الحالات، كانوا روادا في مبادراتهم، وشجعانا في مواقفهم.. خلافا لما هو متوقع.
في ثورة البراق (1929)، هربت عائلات يهودية كانت تسكن الخليل، ولجأت إلى عائلات فلسطينية مسلمة.. وهؤلاء بدورهم حموهم وأسكنوهم بيوتهم إلى أن أوصلوهم بر الأمان.. ليس فقط من باب حماية الدخيل والضيف والشهامة العربية... بل لأنهم بشر.. لا يروقهم قتل الآخرين لمجرد الاختلاف في الدين، أو لأي سبب آخر..
وطوال سنوات الصراع العربي الصهيوني، خرجت أصوات يهودية وإسرائيلية عديدة تنادي بالسلام: شخصيات وحركات وقوى اجتماعية وأكاديميون.. ومنهم من انضم للكفاح الفلسطيني.. (أوري ديفيس مثالا).
في السبعينيات، كانت الحرب الأهلية اللبنانية مشتعلة، وقد وصل العداء بين الفلسطينيين والكتائب (المارونيين) حده الأقصى، في تلك الحقبة التقى مسيحي مصري قبطي مع مسيحية لبنانية مارونية، التقيا على حب فلسطين، وانضما للثورة الفلسطينية.. والقصة يرويها الصديق "أحمد عزم" في مقالة له: "كانت منى لبنانية مارونية، خالها كريم بقرادوني قائد حزب الكتائب اللبناني، أحبّت فلسطين، والتزمت بها، فقاطعها أهلها، وظلّت على حُبها. لم تكن فتاةً عابرة، دكتورة للأدب الفرنسي. تعرّفت إلى رؤوف ميخائيل في باريس، فالتقى حبهما لفلسطين. هو طبيب مصري قبطي، كان اسمه الحركي في نضاله اليساري في مصر محجوب عمر، كان يمنح الحب لكل العالم أكثر من أي شخص في العالم، فأعطتهُ هي كل الحب والطمأنينة والحنان لآخر لحظةٍ في حياته". رؤوف توفي في 2012، ولحقت به منى قبل أيام..
شاهدتُ فيلما تسجيليا لرجل عراقي أصيب بجراح بالغة في الحرب العراقية الإيرانية العام 1982، فأنقذه من الموت جندي إيراني، عالج جرحه، وظل لأيام متواصلة وهو يتفقده ويطعمه إلى أن أسره الجيش الإيراني.. وتمر السنون، ويلتقيان مصادفة بعد أكثر من ثلاثين سنة في كندا ويتعرفان إلى بعضهما وتتوثق صداقتهما..
في العام 2005، كانت ذروة الفتنة الطائفية بين شيعة وسنّة العراق، حينها غرق في حادثة "جسر الأئمة" في دجلة قرابة الألف شخص ممن كانوا يتوجهون للاحتفال بذكرى الإمام الكاظم، فما كان من الفتى عثمان الأعظمي (وهو سنّي) إلا أن قفز للنهر، وأخذ يساعد في إنقاذ الغرقى، فتمكن من إنقاذ سبعة حتى غرق هو في آخر محاولة، ضاربا مثلا رائعا في الإنسانية حين تتغلب على الطائفية..
في أميركا، قبل أيام، قُتل مواطنان أميركيان مسيحيان، وهما يدافعان عن سيدة مسلمة محجبة، حاول أحد العنصريين أذيتها وإهانتها.. وقبلها استشهدت الأميركية "راشيل كوري" وهي تدافع عن أسرة فلسطينية.
المشكلة أن الظواهر السلبية أشد وضوحا وأكثر انتشارا، وأسهل للتعميم.. والمشكلة أيضا أن القلة المسيطرة (النخب الاقتصادية والعسكرية والدينية) هي التي تفرض رؤاها، هي من يشعل أتون الصراع.. بينما الأكثرية (الجماهير)، هم من يكتوون بالنيران، ومن يدفعون الثمن.. ومع ذلك يظل صوتهم مخنوقا.. وبالكاد يُسمع منه بقايا أنين..
الناس بطبيعتها تميل للخير والسلام.. لكن القادة السياسيين والحزبيين والأيديولوجيين، وزعماء الطوائف، ورجال الدين، هم من يروجون للكراهية، ونبش الأحقاد، وإثارة الفتن، وإشعال الحروب..
في مذكرات ضابط إنجليزي عن الحرب العالمية الأولى، كتب الكابتن "شارتر": "شاهدت اليوم واحداً من أكثر المشاهد إدهاشاً على الإطلاق؛ عند الساعة العاشرة صباحا، كنت أختلس النظر من فوق المتراس عندما شاهدت ألمانياً يلوح بذراعيه، وفي اللحظة التالية خرج ألمانيان آخران من خندقهم وسارا في اتجاه خنادقنا،
كنا على وشك إطلاق النار عليهم، لكن عندما رأينا أنهم لم يكونوا يحملون البنادق ذهب أحد رجالنا لملاقاتهم. وخلال دقيقتين، أصبحت الأرض التي تفصل بين خطي الخنادق تعج بالجنود والضباط من كلا الجانبين، وهم يتصافحون بالأيدي ويتمنون لبعضهم بعضا عيد ميلاد سعيدا، تم تبادلوا السجائر والتواقيع التذكارية، بينما استمتع بعضهم بمباراة كرة قدم، والتقط البعض الآخر صوراً مشتركة".
في قصيدته الخالدة قال محمود درويش: وأنت تخوض حروبكَ، فكّر بغيرك، لا تنسَ من يطلبون السلام.
أين روسيا من الصراع الشرق أوسطي؟!
05 أكتوبر 2024