ذات يوم، غير بعيد، كان الصحافي السعودي عادل زيد الطريفي (أحد كتّاب صحيفة «الوطن» يومذاك، قبل أن يتدرّج في المناصب: رئيس تحرير يومية «الشرق الأوسط»، مجلة «المجلة»، قناة «العربية»، وزارة الثقافة والإعلام…)؛ قد كتب ما يلي، تحت عنوان «حتى لا تكون منهاتن سعودية»: «إننا اليوم واقعون أسرى لإرهاب تمّ توفير الأرض الخصبة لنموّه منذ عقود. وما يردده اليوم كثير من الشيوخ الرسميين والكتّاب ـ الذين لم يستيقظوا إلا حين وقعت الواقعة ـ ليس إلا وصفاً غير صادق للظاهرة، لا يتناول الأسباب والجذور الحقيقية للفكر التكفيري/الجهادي. إذ يكتفي هؤلاء باعتبار ما حدث فكراً وافداً، وينسى هؤلاء إنّ البذور كانت كامنة في ثقافتنا، ونتيجة لأخطاء كثيرة عبر الزمن يتحملها الكثيرون منّا في المجتمع».
لم يكن الطريفي يتحدث عن «رعاية قطر للإرهاب»، غنيّ عن القول، ولا عن الإخوان المسلمين أو «حماس»؛ بل كان يقصد دود الخلّ الذي من السعودية، وفيها؛ وكان يشير بوضوح إلى أنّ «البذور» كامنة في ثقافة المملكة ذاتها، أولاً. رئيس تحريره يومذاك، جمال خاشقجي، ذهب أبعد: «بيننا فكر ظلامي يرفض العصرنة والمساواة والتسامح والانفتاح على العالم من أجل حياة أفضل بروح اسلامية أصيلة، ومن يحملون هذا الفكر ليسوا مجرد شباب مغرّر بهم يحملون السلاح ويخرجون علي الدولة، وإنما طابور واسع نما في غفلة من الزمن واستغلّ تسامح وليّ الأمر، تتدرج عندهم صور التكفير والعصيان ولكن يجمعهم هدف واحد ليس فيه خير لبلدنا. هؤلاء وفكرهم يجب أن يكونوا الهدف الأول بعد القضاء على هذه العصبة المارقة. نريد أن نعيش في مجتمع مسلم منسجم مع ذاته لا متصارع. وليكن ما حصل البارحة بداية النهاية لهذا التيار، وبعدها نتفاءل بربيع سعيد مقبل».
وأما «ما حصل البارحة»، فقد كان سلسلة عمليات انتحارية تعاقبت في الرياض العاصمة، وشكلت هزّة نوعية للأسرة الحاكمة، حيث توالت تصريحات كبار المسؤولين السعوديين التي لم تكتفِ بإدانة العمليات الانتحارية، بل وجهت أصابع الاتهام المباشرة إلى منظمة «القاعدة»، وأسامة بن لادن شخصياً.
وفي كلمة متلفزة قال الأمير عبد الله بن عبد العزيز، وليّ العهد يومذاك: «لا مكان للإرهاب بل الردع الحاسم ولكلّ فكر يغذيه ولكل رأي يتعاطف معه»؛ الأمر الذي كان يشير إلى أنّ المملكة لن تحارب «القاعدة» وحدها، بل كلّ من يتعاطف معها في «الفكر» و«الرأي». آنذاك، هنا أيضاً، لم تكن قطر على لائحة الاتهام، وكان الإخوان المسلمون يسرحون ويمرحون في أرجاء المملكة، ولم تكن «حماس» منظمة «إرهابية» على أي نحو…
وكان طبيعياً أن يكون خاشقجي، وفريق تحرير «الوطن»، أهل السبق في الذهاب أبعد، وأجرأ، وأشدّ صراحة استطراداً؛ في وضع الإصبع على الجرح، وليس على أطرافه وحدها. ولا ريب في أنّ خاشقجي كان قد تلقي توجيهات عليا، اختلطت في سريرته بذلك الحماس «الليبرالي» المفرط؛ فضلاً عن يقين في أنّ المملكة تنوي طيّ صفحة كبرى وافتتاح أخرى، وأنّ 2003/5/12 في الرياض، لن يكون أقلّ أثراً من 2001/9/11 في نيويورك. صحيح أنّ خطاب خاشقجي، في نقد التطرّف والأصولية والتيارات الجهادية وأنصار أسامة بن لادن، كان يردّد أصداء الخطاب الأمريكي اليميني التقليدي (وليس الليبرالي، للمفارقة!)، حتى بدا في بعض الأمثلة وكأنه يكتب بقلم أمثال دانييل بايبس أو وليام سافير؛ إلا أنّ الرجل لم يكن ينطق عن هوى حين فتح النار، بعد تفجيرات الرياض مباشرة، على مؤسسات دينية منيعة حصينة، أقلّ ما يُقال فيها أنها كانت رديف السيف في تمكين عبد العزيز بن سعود من إقامة كيان المملكة.
من جانبها، كانت صحيفة «المدينة» تعكس مزاج العائلة المالكة الجديد، واللافت؛ الذي لا يكتفي بمحاربة الإرهاب على مستوى تقني ـ أمني صرف (وهو خيار الماضي بصفة إجمالية)، بل أيضاً على مستوى «الفكر» و«الرأي»، أي على مستوى العقيدة والتربية في عبارة أخرى. ولقد كتبت الصحيفة تقول إنّ «الحادي عشر من أيلول كان نقطة تحوّل في الولايات المتحدة أتاحت لواشنطن الاحتشاد استجابة لتحدّي الإرهــــاب، والثاني عشر من أيار [تاريخ وقوع العمليـــات الانتحارية] ينبغي أن يكون نقطة تحوّل في حياتنا لكشف الأسباب الحقيقية لهذا الإرهاب ومعالجتها واجتثاث جذورها». التكرار، هنا أيضاً، لا يبدو مثيراً للملل: لم تكن «المدينة» تتحدث عن قطر، وكان كتّاب الإخوان المسلمين يحتلون أعمدة الصحف وشاشات التلفزة، وكانت حركة «حماس» مقاومة فلسطينية «شريفة»!
يومذاك كذلك، ولكي تكتمل الصورة على نحو أكثر تظهيراً لعناصرها التكوينية؛ لم يكن بالأمر المألوف ـ في مملكة مغلقة منغلقة، لا يُخرق فيها المألوف إلا لماماً واستثناء ـ أن يخرج الداعية والفقيه الإسلامي الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، فيفتي بعدم شرعية قراءة صحيفة يومية، «الوطن»؛ يحدث أنّ رئيس مجلس إدارتها هو الأمير بندر، نجل الأمير خالد بن فيصل بن عبد العزيز، حاكم عسير. وفي الواقع كان الأمر خارقاً للعُرف، وللأعراف جمعاء ربما، لأنّ الصحيفة تُراقب بالفعل، وبصفة يومية، من وزارة الداخلية؛ فضلاً عن أنها معروفة بالدفاع الشديد عن آراء وليّ العهد الأمير عبد الله، في الإصلاح والتطوير وتحديث الدولة والمجتمع. وهكذا توجّب تقديم كبش فداء، إذْ لا مناص من تقديم ضحيّة أو ديّة ثأر بالأحرى؛ فكان رئيس تحرير الصحيفة، الذي لم يمض على تعيينه سوى أسابيع معدودات!
بالتوازي مع هذا المشهد، طرأ حدث خارجي بالغ الدلالة، لأنه مثّل أحد أخطر الانشقاقات السياسية داخل بيت آل سعود، خاصة بعد غزو العراق، 2003. ففي جنيف أعلن الأمير سلطان بن تركي بن عبد العزيز (ابن شقيق الملك فهد من أبيه وأمّه، وكان نائباً لوزير الدفاع حتى عام 1977، وأطيح به في خلاف عائلي)، تشكيل «هيئة سياسية ملكية سعودية تعمل من أجل تقديم النصح باتجاه تقويم الحكم»؛ مؤكداً أنّ تحقيق المشاركة الشعبية في إدارة حكم البلاد سيكون من مهامها الرئيسية، إضافة إلى العمل على إيقاف الفساد الذي ينتهجه بعض الأمراء، والبعض من كبار المسؤولين ورجال الأعمال.
غير أنّ ما حلم به هذا الأمير، تماماً كالذي قاد خاشقجي إلى ذلك الحماس المفرط، لم يكن الجوهر في المأزق الكبير الذي تعيشه المملكة.
الإصلاح عسير لأنه يأتي ولا يأتي، والمؤسسة الدينية هرمة ولكنّ أسنانها قاطعة، ويبقي أنّ التفكير الجهادي هو المعضلة الكبرى اليومية المتنامية، شاء الليبراليون أم كرهوا. وفي أزمنة غير بعيدة كان البعض من ثقاة العائلة المالكة قد ظنّوا أنّ رعاية الجهاد بعيداً عن حدود المملكة، في أفغانستان والبوسنة والشيشان، هو أفضل السبل لاتقاء شرّه داخلياً، من جهة أولى؛ ولإلهاء الناس عن همومهم اليومية، وعن فساد الأمراء، من جهة ثانية. والأرجح أنّ الثقاة أنفسهم أدركوا أنّ السحر انقلب على الساحر، وليس من اليسير ـ إذْ ليس في الإمكان، عملياً ــ قطع خطوة واحدة ملموسة في طريق «الحرب الشاملة على الإرهاب»: ضدّ العمليات، وضدّ ما يتماهى معها من «فكر» و«رأي» و… مناهج تعليمية!
وبدل ترحيل المأزق، هذا، وسواه كثير في الواقع، إلى قطر والإخوان المسلمين و«حماس»؛ خير لعقلاء المملكة أن يتفحصوا قاع الخلّ السعودي ذاته، إذْ الأرجح أنهم سوف يعثرون فيه على كثير من الدود الموروث، والعلق المتأصل!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
عن القدس العربي