خمسون حزيران مضت بشرورها بلا أي خير. خمسون عاماً مليئة بنكسات من كل نوع ولون وليس "نكسة" واحدة كما أطلق عليها في أولها. خمسون عاماً استهلكت جيلين كاملين وزيادة، ولا يزال احتلال 67 مستقراً ويتمدد فوق أرضنا وأنفاسنا وأحلامنا.
ماذا بقي من حزيران الأول في الذاكرة الشخصية؟ بقي الكثير، منها:
- في حزيران الأول كنت أعيش في القاهرة. عشت كل مقدمات ذلك الحزيران ومجرياته ونتائجه. كنت ككل أهل مصر والمقيمين فيها متيقنين بأن الحرب ستقع، وكنا ممتلئين حتى التشبع ثقة بالنصر. كان مردّ ذلك الثقة بالحكم القائم والاطمئنان إلى وعوده أولاً، ثم تصريحات كبار القادة العسكريين وبعدها الإعلام الموجه.
بلغ اليقين والثقة من هزيمة دولة الاحتلال وعودة التواصل البري مع المدن الفلسطينية درجة أن إحدى الزميلات من نابلس سألتني إن كنت ارغب بمشاركتهم في مشروعهم استئجار سيارة والعودة إلى نابلس عن طريق البر.
- قبل ظهر الخامس من حزيران كنت وصديق لي في سكن للطالبات بحي مدينة نصر في زيارة لزميلة عادت حديثاً من بلدها. كان حي مدينة نصر في ذلك الوقت حياً صغيراً نسبياً، أهم ما فيه، ارتباطاً بالحدث، وجود مبنى (أو مباني) هيئة الأركان العامة للجيش المصري في أحد أطرافه. فجأة، بدأت الطالبات يخرجن من غرفهن في حالة من الهيجان يعلنَ بفرح وابتهاج أن الحرب قامت. واحدة من الطالبات كانت زائرة مثلنا، طلبت منا توصيلها إلى سكن الطالبات الذي تقيم فيه وكان قريبا نصله سيراً على الأقدام. في الطريق رأينا طائرات قادمة تحلق في السماء، ولم نر في ذلك ما يستدعي التداري أسفل عمارة عالية حتى أطلقت إحدى الطائرات زخات من الرصاص، عندها ركضنا كغيرنا وتدارينا بعمارة عالية. مواطن مصري انبطح أرضاً فيما يشبه الأخدود. بعد ابتعاد تلك الطائرة قام من انبطاحه وهو يقول: "الله.. هم وصلوا هنا إزاي؟".
أربكنا ذلك السؤال للحظات، لكنه لم يؤثر على درجة ثقتنا ولم يهز معنوياتنا. ومع كل يوم جديد في ذلك الحزيران كنا نستعيد ذلك السؤال كمطارق تدق في الرأس وفي الوعي.
- نجحت الهيئة التنفيذية (أعلى هيئة) لاتحاد طلاب فلسطين في الحصول على موافقة من جهات مصرية معنية بالتحاق طلبتنا بجبهات القتال. كنت حينها عضوا في الهيئة الإدارية لفرع القاهرة. أذعنا الخبر على الطلاب عبر الاتصال المباشر وحددنا نقطة التجمع في مقر منظمة التحرير وكان حينها في شارع رمسيس بوسط البلد، قريباً من محطة القطارات المركزية.
كان التجاوب فورياً، وتجمعنا بانتظار باصات الجيش المصري لتنقلنا إلى الجبهة. وطلب من كل متطوع تعبئة نموذج عسكري. جميع المتطوعين أجاب بـ "نعم" على السؤال حول تلقي تدريبا عسكريا. والجميع أجاب بـ"راق" رداً على سؤال عن نوع التدريب ومستواه. في الحقيقة، لم يتلق المتطوعون أي تدريب، وغالبا لم يتعرفوا على السلاح في حياتهم.
بقينا لثلاثة أيام نتجمع أمام مكتب المنظمة بانتظار الباصات من الصباح إلى المساء وكان عدد المتطوعين يزداد كثيرا كل يوم.لا الباصات وصلت، ولا التحقنا بأي جبهة قتال، أو حتى مواقع إسناد من أي نوع.
- يوم أعلن عن خطاب للرئيس عبد الناصر تجمعنا في الموعد عشرات من الطلاب في قاعة الاتحاد فرع القاهرة حيث يوجد تلفزيون، لمشاهدة الخطاب. بعد الخطاب والاعتراف بـ"النكسة" ثم التنحي، تشرنق كل واحد منا على ذاته لا شيء سوى الصمت المطبق والوجوم والحزن يغطي كل القسمات. بعد انتهاء الخطاب بدقائق وصل إلينا مروان كنفاني، شقيق غسان وأشهر حارس مرمى في مصر في حينه، خاطبنا بجدية وانفعال: ماذا تفعلون هنا، إن خليفة عبد الناصر هو زكريا محيي الدين وهو رجل أمن ومخابرات، وألحّ علينا أن يغادر كل إلى بيته. لم يكن لدينا شيئاً نفعله فغادرنا منفردين.
شخصيا لم أرد أن أكون وحدي في البيت اتفقت مع علي وأمين قبعة على أن نذهب إلى بيتهم مع تيسير في مصر الجديدة. كانت المسافة بين مقر الاتحاد بشارع جواد حسني وميدان التحرير حيث موقف الباص الذي سنركبه إلى مصر الجديدة لا تتعدى 10 دقائق مشياً على الأقدام. الشوارع التي عادة ما تكون مزدحمة كانت شبه فارغة تماما.
كان الناس في بيوتهم منغلقين على ذواتهم ومشدوهين من هول مفاجأة الخطاب. مع بدايات تخطي الباص السائر في شارع رمسيس باتجاه مصر الجديدة، محطة القطارات المركزية، بدأنا نشاهد خروج الناس من الشوارع الفرعية. كانوا يخرجون منفردين كأشخاص أو عائلات، هائمين على وجوههم بملابس البيت لا يعرفون أين يذهبون ولا ماذا يريدون، لا يطلقون هتافا أو يرفعون شعارا. كانت أعدادهم في تزايد كبير وسريع مع كل تقدم للباص في شارع رمسيس الطويل وعلى جانبيه شوارع فرعية كثيرة. وما إن وصل بنا الباص إلى ميدان العباسية نهاية شارع رمسيس وبداية الاتجاه نحو مصر الجديدة حتى كان الميدان على اتساعه ممتلئا بالناس عن آخره، ووجد سائق الباص صعوبة شديدة للدوران ودخول نفق العباسية بداية الطريق إلى مصر الجديدة.
كانت تلك التجمعات عفوية بشكل تام ولا مظهر واحد يدعم الادعاء أنها كانت مرتبة ومخطط لها، وكانت تلك بداية تشكل حشود وتجمعات ومظاهرات 9 و10 حزيران ذات الهدف والشعار الأوحد الناظم والطاغي، المطالب بعودة عبد الناصر عن استقالته والاستمرار في موقعه. كانت في جوهر تلك الحشود وأساسها إعلان قرار أهل مصر برفض الهزيمة والإصرار على الرد على الهزيمة والاستعداد لذلك على كل المستويات. وكنا، طلبة ومقيمين، مندمجين مع الحشود نهتف هتافهم ونطالب بنفس مطلبهم.
كم حزيران بقي علينا لنعيش؟ الواقع العربي المستغرق في خلافاته ومشاكله، والانقسام الفلسطيني الذي يتجذر، والمحتل المستفيد الأول من ذلك، يزداد استشراساً وفاشية ويزداد احتلاله تجذراً وامتداداً، والعالم المتعايش مع استمرار الاحتلال، كلها وغيرها تنذر بـ "حزيرانات" لا يعترض طريقها إلا صمود الشعب الفلسطيني وتمسكه بحقوقه ومقاومته وإصراره على تحرير أرضه.