«حماس»، التي انخرطت في النضال الوطني مع انطلاقة الانتفاضة الأولى، وأذهلت الشعب الفلسطيني بعملياتها، وكسبت تأييد وحب الشعب لها بناء على ذلك؛ ليست «حماس» اليوم، وتختلف عنها في أوجه عدة، فبعد أن فازت في الانتخابات، بدت معالم التفرد والإقصاء واضحة في خطابها السياسي، وأكثر وضوحا في ممارساتها العملية؛ حتى أنها سلخت جزءاً عزيزاً من الوطن لتنفرد بحكمه.
اليوم، تكتمل عشر سنوات على تفردها بحكم غزة، وهناك تباين كبير بين وجهتي النظر اللتين تقيّمان تجربة حُكمها: خطاب «حماس» تغلب عليه اللغة الإنشائية، وعبارات الصمود والممانعة.. بينما تصريحات خصومها تسيطر عليها الأحكام المسبقة، ووصف غزة بإمارة الظلام، والحكم الاستبدادي.. وتلك الخطابات بهذه الطريقة تُبعدنا عن الحقيقة؛ ولكنها تضعنا دفعة واحدة أمام السؤال الأهم: هل نجحت «حماس» أم أخفقت في حكمها؟ وبالطبع، من الصعوبة اختزال الإجابة بكلمة واحدة: نعم أو لا. ذلك لأن الإجابة تعتمد على مفهومنا للنجاح، وعلى المعايير التي سنستخدمها في التقييم.
وصلت «حماس» للحكم بطريقة ديمقراطية عبر الانتخابات، لكن طبيعتها البراغماتية (كحركة وُلدت من رحم الإخوان) جعلتها تتعامل مع الديمقراطية بطريقة نفعية، فهي تعاملت معها كسلم يستخدم لمرة واحدة فقط؛ للوصول للسلطة، ثم الاستفراد بها، ثم حرق كل السلالم التي تؤدي للديمقراطية، وتداول السلطة.
كما نجحت «حماس» إلى حد ما بتثبيت الأمن الداخلي، ولكن ألم تكن مأثرة «طالبان» «الوحيدة» هي ترسيخ الأمن؟! ونجحت «حماس» بالصمود كل هذه الفترة، رغم الضربات التي تتلقاها من كل صوب وحدب، ولكن طول البقاء ليس هو معيار النجاح، فنظام القذافي دام 42 سنة، وعندما سقط في النهاية، تكشّف مقدار الاحتقان الذي ظل مختزنا في صدور الناس كل هذه السنين.
نجحت «حماس» كحزب يناضل من أجل أيديولوجيا معينة، ونجحت كحركة سياسية وصلت للسلطة وناضلت للحفاظ عليها، وبرهنت على تماسك بنيانها الداخلي، ونجحت كحكومة متمسّكة بخطابها السياسي حسب الثوابت التي أعلنتها، بالرغم من حجم الضغوطات الواقع عليها. ولكن نموذجها هذا يشبه «بنجاحه» النماذج التي قدمتها كل الأحزاب الشمولية الحاكمة في العالم الثالث.
ولكن، هل هذا هو النجاح الذي كان ينتظره الشعب الفلسطيني (الذي انتخب «حماس»)!؟ أم هو النجاح الذي حرصت عليه «حماس» بعقلية ومنهج الحزب الحاكم الأوحد؟! وهناك بون شاسع بين نجاح الحزب في الوصول للسلطة والبقاء فيها، وبين نجاحه في تحقيق أهداف الشعب العليا، والدفاع عن مصالحه، وتمثيل قضيته الوطنية، وتأمين حياة كريمة له، تشرع أبوابها على المستقبل، وتتصالح مع المجتمع الدولي.
من الممكن أن «حماس» نجحت في مجال الحكم، ومارست الإدارة بطريقة فعالة، ووطدت أركان سلطتها، إلا أنه لا قيمة لنجاحها، إذا لم يكن الإنسان محور اهتمامها، وجوهر رسالتها، وإذا وظّفت الجماهير لخدمة الشعار، بل وجعلتها ضحية له، وإذا صارت القضية الوطنية برمتها في خدمة الحزب الحاكم، ورهينة بيده، وإذا فَقَد المواطن حقوقه، بل وحياته في سبيل الحفاظ على حكم «حماس».. ولا قيمة لأي نجاح، إذا كانت البطالة والفقر والبؤس حالات ملازمة للمجتمع، وإذا شعر الناس أنهم في سجن كبير، وإذا بدأت أعداد المتسولين واليائسين والمنتحرين تتزايد.
الإخفاقات التي وصلت إليها «حماس»، ليست بسبب الحصار والمؤامرات، كما يروج ناطقوها الإعلاميون، مع عدم إغفال تأثيرها الكبير؛ أزمة «حماس» الحقيقية بدأت منذ أن تحولت من حركة سرية إلى سلطة وحكومة، ومن حركة مقاومة إلى جيش شبه نظامي، وصارت حساباتها حسابات الدول وأشباه الدول، وأولها وأهمها الحفاظ على كيانها، وأمنها، مع كل ما يلزم ذلك من تقديم تنازلات أيديولوجية وسياسية تضمن تأمين مكان لوجودها، ومصادر لتمويلها. وهذه النقطة تمثل أبرز معالم أزمة «حماس» الوجودية، حيث إن تحولها لتنظيم رسمي علني وحكومة، تسعى لاختراق الساحة الدولية، وانتزاع اعتراف إقليمي ودولي بها جعلها تغير إستراتيجيتها، وتحيد عن أهدافها الأصلية. كما أنها لتكريس حكمها واجهت كل معارضة شعبية بالقوة والعنف، طوال السنوات العشر الماضية. فضلا عن أن طبيعة برنامجها السياسي والأيديولوجي يجعل منها حكما استبداديا إقصائيا (ثيوقراطي) بكل ما يلزم ذلك من شدة وبطش.
وإضافة لديكتاتورية الجغرافيا السياسية أضافت «حماس» ضلعا آخر لأزماتها وهو انتماؤها للإخوان المسلمين، الجماعة التي صارت محظورة ومحاربة في أغلب العواصم، خاصة في مصر، الأمر الذي أقفل أمامها أبواب مصر، ومعلوم أن حياة ومستقبل القطاع مرهونة بمصر. كما أن علاقتها بالإخوان، ووضعها على قوائم الإرهاب الأميركية جعل الدول العربية تضغط عليها لتحسين علاقاتها مع أميركا.
وبعد الضربات والهزائم التي تلقاها مشروع الإسلام السياسي في المنطقة، الذي صعد بقوة إبان ما سمي ثورات الربيع العربي، ثم إنهار بسرعة غير متوقعة بعد ذلك، في مصر وتونس وسورية وغيرها، وبعد خسارة «حماس» حلفاءها التقليديين (سورية وإيران و»حزب الله»)، وخروج قطر من دائرة التأثير التي كانت تتمتع بها، وربما تخليها عن «حماس».. وبعد تجاهل عواصم العالم التنازلات التي قدمتها «حماس» في وثيقتها الأخيرة.. بعد كل ما تقدم ذكره، يبدو مستقبل «حماس» غير مضمون، أو على الأقل إذا لم تتكيف مع هذه المتغيرات، ولم تستوعب مكانتها في المعادلة الجديدة، فإنها ستواجه خيارات بالغة الصعوبة.
الأهم والأخطر من كل ما سبق، انفجار أزمات غزة الحياتية في وجه «حماس».. تلك الأزمات التي ظلت تتراكم يوما بعد يوم، ولا تفعل «حماس» إزاءها سوى توجيه الاتهامات للغير، والحديث عن المؤامرات.. حتى فقد أهل غزة شغفهم بالحياة، بعد أن كانوا شعلة حيوية وثورة.
وأمام هذا المشهد البائس فإن أي حديث عن الكرامة والمقاومة والصمود.. وكل الكلام الإنشائي.. سيكون حديثا زائدا لا قيمة له، بل سيكون صفعات إضافية على وجه كل أب لا يجد مأوى لعائلته، وكل أم لا تجد عشاء لأطفالها.
المأساة أن «البردويل» مستعد للصمود 11 سنة إضافية.. 11 سنة كفيلة بتدمير كل ما تبقى من أثر للحياة في القطاع.. في الواقع، لا مخرج لـ»حماس» إلا بعودتها إلى أحضان الشعب، إلى الشرعية، بإنهائها الانقسام، وانضمامها إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وموافقتها على إجراء الانتخابات العامة..