اختُتمت في مدينة «أمّ العرائس» التونسية، الدورة الثالثة للمهرجان الثقافي والفكري، الذي أُقيم وسط أجواء احتفالية حضرها جمهور كبير من التونسيّين والجزائريّين. وكشفت هذه الاحتفالية التي تزامنت مع زردة الولي الصالح «سيدي ناصر»، ثراء المخزون الفولكلوري والتراثي والفكري لهذه المدينة، ومثّلت لها مناسبة جديدة لإحياء نشاطها السياحي الذي يعيش منذ سنوات تهميشاً واضحاً، امتزجت فيه اللامبالاة السياسيّة بتنامي الأزمة الاقتصادية والأمنية في تونس، وهو ما جعل غالبية مدن الحوض المنجمي، على غرار مدينة أم العرائس، تعيش خلال أيّام المهرجان حالة من الاحتقان الاجتماعي.
حرص منظّمو المهرجان على أن يكون برنامجه متنوعاً ومراوِحاً بين الفكر والعروض الفولكلورية والمشهدية، حيث تضمن إقامة معرض للصناعات التقليدية، انصبّ الاهتمام فيه على النشاطات اليدوية التي كان يتعاطاها الناس في مدينة «أمّ العرائس»، ومثّلت بالنسبة إليهم مورد رزق قبل اكتشاف مناجم الفوسفات في المدينة.
كما ألقى الباحث الجامعي عثمان البرهومي، محاضرة بعنوان «إشكاليات التراث والهوية الثقافية من خلال العادات والتقاليد التونسية»، تناول فيها محاور عدة من أهمّها: ضرورة التعامل العقلاني والإيجابي مع التراث كجزء من الهوية الثقافية لمنطقة الجنوب الغربي عموماً، ومدن الحوض المَنْجِمي خصوصاً، وإيجاد آلية لتوظيف التراث في خدمة التنمية المناطقية.
وأكّد الباحث ضرورةَ التعامل مع عناصر الهوية كمعطى جامع لسكان المنطقة، ودعا إلى حفز الشباب على الاهتمام بهذا الموروث وتثمينه. ورأى الدكتور عثمان البرهومي، أنّ «قضية التراث هي المدخل المفيد لتوضيح ظواهر الركود والتخلف التي تعانيها المجتمعات العربية. وإذا كان التراث ينتمي إلى الماضي، فإن المواقف منه تنتمي إلى الحاضر. والحديث عن التراث يؤدي بنا إلى مناقشة قضية تحديث المجتمع والأساليب التي يمكن اختيارها كطريق للتغيير أو التطوير».
وذهب المحاضر إلى القول إنّ «الزوايا والأضرحة والمقامات والمزارات، تؤرخ للأولياء الصالحين الذين احتضنتهم المنطقة جيلاً بعد جيل وقرناً بعد آخر، فغطوا بواديها وحواضرها، وملأوا جبالها وسهولها، وعمروا شمالها وجنوبها وشرقها وغربها. وبذلك صارت الزوايا مدخلاً من المداخل الرئيسة في حفريات ماضي البلاد التونسية، وجهة الجنوب الغربي بكل عناصره ومكوناته المادية والمعنوية. وكانت للزاويا والمقامات أدوار كثيرة في المجتمع التونسي، كتفقيه الناس في أمور دينهم من خلال دروس الوعظ والإرشاد، وتلقينهم مفاهيم الطريقة من حيث الأوراد والأذكار التي تميزها عن الطرق الأخرى. وإلى جانب هذه المهمات الدينية، كانت الزاوية تقدّم دروساً في الآداب والحكمة».
أما في المناطق التي فيها تمثيل ضعيف للسلطة أو غياب لهذه السلطة، فإن الزوايا كانت تقوم فيها بالأدوار التحكيمية في النزاعات والخلافات بين القبائل، مثل مناطق الجنوب الغربي، وهذا الدور قامت به زوايا الجهة ومقاماتها، ومنها الولي الصالح سيدي ناصر. يشار إلى أن سكّان مدينة أم العرائس يقيمون سنوياً خرجة (موكباً) باسم هذا الولي الصالح، وقد كانت هذه الخرجة من أهمّ فاعليات المهرجان، وشاركت فيها فرق محلية وأخرى وافدة من المحافظات المجاورة على غرار قفصة وتوزر وقبلي وتطاوين، وشكلت فضاءً امتزجت فيه إيقاعات الموسيقى الشعبية بروحية الإنشاد الصوفي. ولعلّ ما زاد حرارة أجواء هذه الاحتفالية، تلك المشاهد الجميلة التي منحت المدينة ميزتها المحلية، وتمثّلت في عروض اللباس التقليدي ومراسم الزفاف والجحفة وأنواع المأكولات المحليّة، ما ساهم في إبراز القيمة الثقافية والفنية التي يزخر بها هذا التراث التونسي.
وبالنظر إلى خصوصية أجواء الجنوب التونسيّ، كان للشعر الشعبي حضوره الجليّ من خلال إقامة أمسية شارك فيها عدد من الشعراء الشعبيّين، على غرار نجيب الذيبي والعيد مصابحية وعزالدين براهمية.