«هي كده»، هو العنوان الذي اختاره محمد سليم، مخرج العرض المأخوذ عن رائعة يوسف إدريس «الفرافير»، ليدخل به مغامرة حدودُها الأولى تقف عند اتهامه بالتطاول على «القامات»، بينما تبدو مغامرته تحدياً تجاوز من خلاله الاتهامات والأحكام المسبقة، ليمضي نحو تحقيق حلمه الخاص والمتمثل في سؤال: ماذا لو أعدنا اليوم قراءة «الفرافير» في ظل واقع تبدل عشرات المرات منذ عام 1963، وقت ولادة هذا العمل على يد يوسف إدريس والمخرج الراحل كرم مطاوع؟ واقع لم يعد فيه السيد مجرد سيد يستعبد «فرفوراً»، لكنه أصبح بما يملكه من تكنولوجيا مصدراً للخراب الذي يمارسه بحجة أنها مهمات «مقدسة».
لم يكتف محمد سليم بأن قام بحذف بعض الحوارات من نص إدريس، لكنه تجرأ أيضاً على إضافة مشاهد، أظنّ لو أنّ يوسف إدريس كان حياً لما اكتفى بأن يتقدم ببلاغ ضدّه في قسم شرطة «الأزبكية» - كما سبق أن فعلها مع كرم مطاوع - بل لكان طالب بالحجر عليه متهماً إيّاه بالجنون.
جنون محمد سليم هو جنون فنان يعرف أن النص - أي نص - هو تكئة لصنع حلم مسرحي خاص. وهو هنا لا يسنّ بدعة، لكنه يسير على نهج من سبقوه على درب الجنون المسرحي. فلننظر إلى التنوّع في تقديم نصوص شكسبير، وكيف حوّل بريخت نصوصا قديمة إلى عوالم جديدة تخدم فكرته ورسالته، وكيف تحدّى المصري نجيب سرور بريخت الألماني حين مدّ يده إلى نصّ «أوبرا الثلاث بنسات» فحوّله إلى «ملك الشحاتين»، وهكذا.
تعدّ قاعة «الغد» صغيرة الحجم، لكنّ مصممة الديكور مايسة محمد استطاعت أن تصنع خشبة مليئة بالتفاصيل غير المعيقة، ومقسمة إلى قسمين، الأول (رئيس) هو عالم «السيد وفرفوره»، يتميز بموتيفات دالّة، أهمها نموذج لتمثال الإله أطلس يحمل الكرة الأرضية على يديه، بينما تُقابله كواكب ونجوم تتدلى من السقف، وهو ما يتّسق مع مقولة «الفرافير»، ومن بعدها «هي كده» بمعنى أن الكون كله يتحرك وفق قانون «سيد وفرفور»: ثابت ثقيل يدور حوله خفيف تابع.
في مقدم الجزء الرئيسي، دائرة تقع فوقها أسطوانة بيضاء تستخدم مثل شاشة عرض لفيلم يحكي تاريخ العالم وأسياده، ومن قبله حال العالم اليوم وما فيه من دمار وحروب. وفي الفيلمين، يقوم ممثلا العرض، شريف صبحي (السيد) وسامية عاطف (فرفورة)، بأداء أدوار شخصيات الصراع الأزلي بين السيد والتابع عبر التاريخ. وحين ترتفع الأسطوانة إلى أعلى تكشف عن الشخصية الأولى للعرض، المؤلف عصام شكري يعلن عن نفسه ومعاناته غناءً.
في القسم الثاني، على يمين المسرح، يقبع مكتب المحقق (طارق شرف)، والمؤلّف، القسم الذي يحوي التدخل الأكبر لمحمد سليم، ففي حين كان تدخل المؤلف في نص إدريس الأصلي مجرد تدخل عابر يضبط إيقاع الحدث ويشير إلى الشخصيتين بما يجب أن يفعلاه، يتحول إلى شخصية أساسية من كوكب موازٍ أو ربما زمان سحيق، يُقبض عليه ويُحقق معه على جرأته بكتابة نص يراه المحقق محاولة للإخلال بنظام كان وسيظل هو المتحكم في الكون والبشر. يتهمه بكتابة شخصية «فرفورة» المتمردة على «سيدها» ومحاولتها الدؤوب لمحو قانون السيد والتابع وخلق قانون جديد يتعارض مع الفطرة والطبيعة كما يراها ممثل النظام.
في تناوله تفسير النص، اعتمد محمد سليم على ما عبّر عنه في عنوانه الدال «هي كده»، والمتمثل في أن لا سبيل للخروج من دائرة هذا النظام. فاتخذ من الدائرة شعاراً أساسياً لموتيفاته المرئية، وكذلك حركة ممثليه في صراع غير متكافئ مع مستقيم يحلم به وتحلم به «فرفورة»، ويحلم به المؤلف الذي قالها في سؤال مباشر: «ماينفعش يكون فيه نظام يرصّنا جنب بعض في خط مستقيم؟». صراع الدائرة والمستقيم يتحكّمان في الحركة والتشكيل وينجح ممثلا العرض في فهم هذا الصراع فيتبادلان التحرك بين مستقيم ودائرة بخفة وبساطة.
كذلك ينجح محمد سليم في تحويل حوار السيد والفرفور حول تاريخ الكون منذ خلقه وعبر الاستدلال بأسياد الأرض عبر تاريخها (الإسكندر - موسوليني - هتلر - أوباما...) إلى مشاهد فيلمية تعرض على الشاشة الأسطوانية مصحوبة بأغنية تلخّص المعنى كتبها محمد الشاعر ولحّنها عطية محمود.
لم تقف مغامرة المخرج عند حدود جرأته على نص يوسف إدريس، بل امتدت إلى اختيار موفق لممثلين استطاعوا بفهمهم الواعي للرؤية الجديدة وللنص الجديد أن يكونوا عناصر مهمة في عرض يعتمد على نظرة فلسفية للكون كان يمكن أن تكون سبباً في السقوط في هوّة الملل. لقد نجح شريف صبحي ومايسة عاطف في خلق حالة من البهجة (تمنّاها يوسف إدريس في دراساته النظريّة حول الممثّل الفرفور الخفيف الدم، السريع البديهة الطويل اللسان، صاحب كاريزما محببة)، ونجح محمود الزيات في إكساب شخصية «طالب الموت»، ثم «الميت الباحث عن مدفن» بهجة مضافة بأدائه الساخر المتّسق مع الفكرة التي قامت عليها الشخصية.
أما عصام شكري وطارق شرف فاستطاعا العودة بالمسرحية إلى أرضها الواقعية عبر أداء يعي الحدود بين عبثية جانب الخشبة الأيسر وبين واقعية جانبها الأيمن الملحق على النص الأصلي.
«هي كده» واحدة من مسرحيات هذا الموسم التي تعيد إلى المسرح قدرته على إثارة الجدل، سواء حول نصّ قديم يؤرّخ به للمسرح المصري، أو للعلاقة بين إنسان العصر وواقعه المجتمعي والسياسي بمغامرة يستحقّ عليها محمد سليم التحية.