لم تعد مُجدية، محاولات التنصل من المسؤولية، والاكتفاء بتكرار القول، إن على حماس أن تتراجع عن انقلابها الأسود، وأن تسلم السلطة للسلطة. فهذا كلام كاريكاتوري يزيدة المجاز بؤساً، وهو اشبه بلعبة كلام، لا يصلح حتى للمواويل التي تصدح محملة بالأمنيات البعيدة. فلا أحد في هذا الزمن، وفي هذا الوضع، يمكن يتراجع عن شيء، ولا معنى لتكرار المطالبة بالتراجع، سوى أن من يطالبون به، لا يريدون للحال أن تتغير، وأنهم مستريحون ولا يكابدون مشقة على أي صعيد. أما الانقلاب الأسود، فلم يكن المصيبة الوحيدة التي وقف أمامها المتطيرون منها صفاً كالبنيان المرصوص. فما جرى هو العكس، إذ أعقب الإنقلاب، انقلاب آخر، فاحم وحالك، لا يقل عن الأول ظلامية واستهتاراً بالمجتمع الفلسطيني في الضفة وغزة والشتات، وذلك أخطر لسبب بديهي، وهو أن من قاموا به، هم أصحاب الدار والممسكون بمقاليد "الشرعية" التى قضى على طريقها عشرات الألوف من الشهداء. هؤلاء انقلبوا على كل شيء، حتى على ثقافتنا وعواطفنا ومدركاتنا الوطنية، واختزلوا في الشخص الواحد، منظمة التحرير والمؤسسات الدستورية والقانون، وليت الاختزال كان أبوياً، لصالح فرد زاهد وحاني وعميق الإيمان بمدركات القضية ويميز في اللحظة المناسبة بين الجار والعدو، أو بين الاحتلال ومن يخالفه الرأي، فيقطع مع الأول حين الاختلاف، ويظل حريصاً على الثاني رغم الاختلاف.
حكومة عباس والحمد الله، استعادت معزوفة الإنقلاب الأسود الذي تطالب أصحابه بالتراجع، دون أن تشرج لنا كيف يكون التراجع، أو تدلنا على الأيادي البيضاء، التي ستتلقى من أصحاب الانقلاب تراجعهم. فلا يتخيلن عاقل في فلسطين والعالم العربي، أن هناك من يقبل أن تتراجع حماس لعباس، أو أن يُسلم السنوار لماجد فرج، اللهم إلا إذا تحول العالم العربي الى عصفورية. لذا لا جدوى من التلهي وإلهاء الناس، بمقولة التراجع، وإنما على من يرددها أن يسأل نفسه من هو وماذا يمثل وما هو دوره، لكي يتراجع أمامه الآخرون؟. فإن كان الإنقلاب أسوداً، وهو كذلك، فإن أياديكم ليست بيضاء، وهي لا تزال كذلك. فأصحاب الانقلاب أطاحوا الجزء الذي في غزة، من النظام السياسي وطرحوا بديلهم الفاشل، وبدل أن تعززوا قوة ومصداقية النظام الوطني الجامع، وتوسيع شمولية تمثيله ومسؤولياته وتعميق علاقته بالمجتمع الفلسطيني؛ فعلتم العكس، أطحتم به من حيث هو نظام، وجعلتموه فرداً. أو إن شئتم، أضعفتموه لصالح رموز أمنية بائسة وهي في موضع الاحتقار بالمنظور الاستراتيجي، وإن كانت فائعة وفارعة على المستوى المحلي. عندئذٍ، عافت الناس في الضفة والشتات، السلطة التي انقلبت عليها حماس، وتعاطفت مع أصحاب الانقلاب الذي تتحدثون عنه، وكانت غزة هي وحدها التي عرفت الحقيقة وأحست بها، وتمنت لو أنكم تصرفتم بوفاء ومروءة واقتدار، لكنكم اخترتم السقوط!
عندما تقع الكوارث وتطل الفتن برأسها، فإن من يطالب خصمه بالتراجع، يضيّع وقتا ثميناً. وليس أفدح من تضييع الوقت عندما يدفع الثمن المجتمع الفلسطيني والقضية. أن ما جرى خلال السنوات الإحدى عشرة الماضية، أن صيغة المطالبة بالتراجع هي التي سادت، وأصبحت ذريعة لإبقاء كل شيء معلقاً، بل تحولت عند البعض المناطقي، الى صيغة للتخلص من غزة بدءاً من الفتحاويين منها قبل الحمساويين. وفي هذا السياق جرى ما جرى من إنكار لحقوق الناس وممارسات تمييز علنية واستهداف على كل صعيد، أوصل قطاع غزة الى حافة الإنفجار أو الموت.
فمن يُسلّم لمن أو يتراجع أمام من يا حكومة المقاطعة يا أم المرسيدسات والدفع الرباعي، أنت وحكومة حماس؟ ومن أفضل مِنْ مَنْ أيتها الخائبة، كلتاكما، التي لم تستطع أن تخطو خطوة تنموية واحدة، مثل تلك التي خطاها الصوماليون، فيستغني الفلسطينيون ــ مثلاً ــ عن التحويلات العلاجية التي عزت على الفقراء، بينما الشعب الفلسطيني يملك ألمع الكادرات في المهن الطبية؟!
لقد طال أمد العذاب والمحنة، وما يُسمع من رام الله، حتى يوم أمس، ليس الوعيد بالمزيد من الأذى والحصار. فيا أصحاب الأيادي غير البيضاء، إن حماية منظمة التحرير لا تكون بكم، ولا تقديس الوحدة التمامية للأراضي الفلسطينية منتظراً منكم، لأن التواطؤ الأمني هو مقدسكم، ولا وحدة فتح سوف تتحقق بخياراتكم الزنانيرية في المؤتمرات. فالمناضلون والمقاومون، لا بد أن يتوافقوا على أن يتبنى كل ٌ منهم في تعامله مع الآخر، صيغة أرشد وأكثر واقعية وإيجابية وتعاوناً واحتكاماً للشعب، وما دون ذلك هو لعبة الذئب عندما يخادع الراعي!