الاختراق الأميركي للملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي الذي تحدثت عنه الدوائر المحيطة بالرئيس الأميركي، بحاجة أولاً وقبل كل شيء إلى اختراق أميركي داخلي، إذ ان هذا الاختراق ما زال يواجه بصعوبات واعتراضات من قبل أطراف عديدة نافذة في الكونغرس سواء من قبل الجمهوريين أو الديمقراطيين عموماً، وقبل أن يصل المبعوث الأميركي جيسون غرينبلات اليوم إلى المنطقة، كان عليه إجراء بعض التسويات التي من شأنها تسهيل مهمته بعد أن أكد لزعماء الحزب الجمهوري أن أي «اختراق» لن يكون من خلال الضغط الأميركي على حكومة نتنياهو من جهة، وان المشاورات الحثيثة ـ بالمقابل ـ التي يجريها الكونغرس لاتخاذ قرار بتجميد الدعم الأميركي والميزانيات المحوّلة للسلطة الفلسطينية ستؤدي إلى فشل مهمته، ما تداولته وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية، يشير إلى فشل غرينبلات في إقناع معظم رجالات الكونغرس بالمحور الثاني المتعلق بقرار تجميد المساعدات، لكنه تلقّى تطمينات ربما بتأجيل بحث هذا الأمر، مع الاستمرار بالتشديد على ضرورة المضي قدماً في دعم مطالب نتنياهو بوقف معاشات عائلات الأسرى والشهداء!
«الاختراق الكبير» أو «الصفقة النهائية» التي تتحدث بها الدوائر المحيطة بالرئيس ترامب تعبران عن عنوان السياسة الأميركية على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، و»العنوان» هو كل ما خلصت إليه هذه السياسة من دون أي تحديد للمضمون أو المحتوى. جولات غرينبلات السابقة، إضافة إلى زيارة ترامب لطرفي المعادلة مؤخراً، لم تحوّلا هذا العنوان إلى بنود وإشارات أكثر وضوحاً، وباستثناء تأجيل النظر بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة لستة أشهر أخرى، لم تتخذ أية مواقف واضحة إزاء التعامل الأميركي مع الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، زيارة غرينبلات محاولة إضافية لتأكيد اهتمام البيت الأبيض بضرورة تفعيل الجهد الأميركي والتقدم بخطوات جدية من شأنها أن تؤكد جدية ترامب في إحداث اختراق حقيقي على هذا الملف، اختراق من شأنه التعويض عن جملة الانكسارات والأخطاء التي ما زالت تحيط بالطريقة التي يدير بها ترامب سياسات أميركا الداخلية والخارجية على حد سواء!
على الجانب الآخر، ستشجع إدارة نتنياهو مثل هذا الاختراق، طالما سيظل في اطار الحراك السياسي، مع رهان بأنه لن يتحول إلى أداة تنفيذية، إلاّ في حال باتت هذه الإدارة التنفيذية مجرد استنساخ للشروط الإسرائيلية. حكومة نتنياهو ستشجع مثل هذا الحراك، لأنه بات خيارها الوحيد بعد جملة من المتغيرات، والاحتمالات المتزايدة بتراجع تأييد الرأي العام العالمي، وحتى بعض الحكومات من دعم مطلق وأوتوماتيكي للدولة العبرية، خاصة فيما يتعلق بمسألتين أساسيتين: الأولى، ترتبط بموقف أوروبي واضح إزاء الاستيطان ليس باعتباره مجرد عقبة أمام العملية التفاوضية التي من شأنها التوصل إلى السلام بين الجانبين، ولكن باعتبارها مخالفة للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن المتعاقبة، وهنا يمكن التوقف عند الموقف الألماني الذي عبرت عنه مراراً وتكراراً المستشارة ميركل، التي وحسب استطلاعات الرأي ستبقى في منصبها بعد انتخابات أيلول القادم، وكذلك وصول الرئيس الفرنسي ماكرون إلى الاليزيه في باريس، الذي حدد موقفه إزاء الاستيطان من خلال إذاعة الجالية اليهودية في فرنسا، عندما ندّد بالاستيطان وبسياسة حكومة نتنياهو، مع أن ماكرون رفض الحديث عن اعتراف فرنسي بالدولة الفلسطينية «في الوقت الراهن»، إلاّ أن موقف باريس من الاستيطان يشكل مع الموقف الألماني سياسة ثابتة متجددة للاتحاد الأوروبي عموماً.
أما المسألة الثانية إضافة إلى الموقف من الاستيطان، والتي تقلق حكومة نتنياهو، تلك السياسات التي اتخذتها بعض البرلمانات والحكومات الأوروبية إزاء الموقف من الحركة العالمية لمقاطعة الاحتلال الإسرائيلي “BDS”، فقد فشلت ضغوط إسرائيلية بدعم من قوى وأحزاب يمينية في اتخاذ قرارات ضد أنشطة المقاطعة في البرلمان السويسري، كما فشلت في اتخاذ قرارات لوقف الدعم للمجتمع الأهلي الفلسطيني، بينما أكدت الحكومة الإسبانية أن دعم المقاطعة حق من الحقوق التي تكفلها القوانين الدولية. وزير الخارجية الإسباني الفونسو داستيس، أعلن عن احترام بلاده لجهود المقاطعة في إطار حرية التعبير، وجاء هذا الموقف الحكومي إثر موقف مشابه اتخذه البرلمان الإسباني.
لم يبقَ، والحال هذه، سوى رهان إسرائيلي على الحليف الوحيد الأوحد، الولايات المتحدة ورئاسة ترامب، بعد أن تراجع المجتمع الدولي عن تصديقه للخداع الإسرائيلي الذي مورس عليه طوال سنوات وعقود مضت!