مشى على رأسه حتى حفي!

توفيق أبو شومر.jpg
حجم الخط

لم يلجأ الأديبُ الكبيرُ عباس محمود العقاد 1889-1964 إلى الشرطة، أو النيابة العامة ليشتكي مُجايلَه، الأديب الكبير، مصطفى صادق الرافعي 1880-1937 حين أصدر الرافعي كتابه "عَلى السُّفُود" الذي شوى فيه لحم عباس العقاد في سبعة سفافيد! بعد أن مزَّقه قطعا في أسياخ منها: العقاد جبار الذهن المضحك.. العقاد اللص... العقاد ذبابة من طراز، زبلن!
(السَّفُودُ هو سيخ شي اللحم)
سبب الخلاف بين الأديبين يعود إلى أن العقاد انتقد كتاب الرافعي، إعجاز القرآن، الصادر عام 1917 وقال عن الرافعي:
" مصطفى أفندي الرافعي، رجلٌ ضيِّق الفكر، مُدرَّع الوجه، إنَّ قدميه أسلس مَقاداً من رأسه، لعله يبدِّلُ المطية، ويُصلح الشكيمة...... إيه، يا خفافيش الأدب، أغثيتُم نفوسَنا الضئيلة، لا هوادة بعد اليوم، السوطُ في اليد، وجلودُكم لمثل هذا السوط قد خُلِقت، وسنفرغ لكم أيها الثقلان!"
قال عنه أيضا: "هو الذي اعتاد أن يمشي على رأسِه، حتى حَفِيَ"
"ردَّ الرافعي على هجوم العقاد:
"العقاد لِصٌّ من أقبح لصوص الأدب، يُغِير على كتبٍ كثيرة، يسرق، وينتحل، ولا يبين الأصل الإفرنجي، فقد كتب مقالاً في جريدة الحال الأسبوعية بعنوان (لو، تأثيرها في التاريخ) هذا المقال سرقه من مقال، أستاذ التاريخ في جامعة لندن هيرتشو، وهو منشور في مجله أوتولاين".
كذلك، لم يقدم الشاعر الكبير، أحمد شوقي بلاغاً للشرطة ضد الرافعي، لأن الرافعي استهزأ بديوان شوقي، وأسماه: (الشوكيات) بدلاً من الشوقيات، وكان يعتبر شوقي شاعراً من الدرجة الثانية، لا يُجيد اللغة العربية.
أيضاً، لم يقدم الرافعي شكوى ضد الدكتور طه حسين عندما انتقد (رسائل الأحزان) للرافعي، وقال:
"إنه ينحت من صخر، ويلد الجمل ولادة، وهو يقاسي ما تُقاسي الأم من ألم الوضع"!!
فردَّ عليه الرافعي: "الأستاذ الفهَّامة الدكتور، طه حسين: يُسلِّم عليك المتنبي، ويقول لك:
"وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً... وآفتُهُ من الفهم السَّقيمُ"!!
هذه لقطات من عصر التسامح الفكري والثقافي، في زمن المبدعين!
مَن يتابع مسلسل التسامح يُدركْ أن هؤلاء المبدعين كانوا منصفين أيضاً حين يقدمون شهاداتهم الصادقة عن منافسيهم وخصومهم، فقد قال الرافعي نفسُه عن العقاد، بعد أن شواه على سفود الشي:
" أكرهُه، وأحترمه، لأنه شديدُ الاعتداد بنفسه"
قال العقاد أيضا عن خصمه الرافعي: "أعرف أن الرافعي يقول عني ما لا يكتبه، إن الرافعي في الطبقة الأولى من كتاب العربية"!
كما أن الأديب الرافعي القاسي، الجبار، العنيد، رثى أمير الشعراء في جنازته، ونشر الرثاء في مجلة المقتطف.
إنَّ معارك الأدب والفكر في عصر التسامح أنعشتْ القراءة والثقافة، وأنتجتْ كتباً، ودواوينَ شعر، ولم تُنتج خصومات، وقضايا محاكم، وأحكاماً بالحبس والغرامة، وجاهات للصلح!
والأهم من كل ذلك، أن تلك المعارك (السَّمْحَة) حتى لو تخللتها تعبيراتٌ جارحةٌ، لم تدفع الأدباءَ والمثقفين والسياسيين إلى الهجرةِ من أوطانهم، والهروب من دعاوى الجهالات، دعاوى التكفير، والتجهيل، والحسبة، بل كانت جاذبةً للأدباء من كل فجٍ، ليشاركوا، وينهلوا من هذا الإنتاج الفكري الثري!.