يعتقد علماء كثيرون أن اللجوء للأغذية المعدلة وراثياً سيكون ضرورياً وحتميا في مرحلة ما في المستقبل، لاسيما مع الزيادات المطّردة في تعداد السكان، وتقلص المساحات الزراعية.
وهذا ما تراهن عليه "مونسانتو".. ولكن، قبل الدخول في هذا الموضوع الشائك، ما هي الأغذية المعدلة وراثيا؟ ومن هي مونسانتو؟!
الأغذية المعدلة وراثيا (GMO)، هي منتجات كائنات حية (نباتات أو حيوانات) تم التلاعب في جيناتها الوراثية مخبرياً، باستخدام تكنولوجيا متطورة، ولا يشترط أن تكون الجينات من نفس النوع، فمن الممكن إدخال جينات بكتيريا معينة في جينات نبات ليصبح مقاوما للحشرات أو للفطريات، أو متحملا للجفاف.. وهي تقنية حديثة يكتنفها الغموض، ولا يزال الحوار العلمي مستمرا حولها، والجدل محتدما بين من يراها خطيرة على الصحة، ومن يراها آمنة.
وهي تختلف عن التهجين (Hybrid)، والذي يعني تلقيح نباتين من نفس النوع لإنتاج جيل بمواصفات أفضل، وهي تقنية آمنة ولا أضرار فيها على الإنسان، ومعروفة منذ القدم..
أما "مونسانتو"؛ فهي أهم وأكبر الشركات العالمية في مجال البذور المعدلة وراثيا، وهي شركة أميركية لها تاريخ طويل ومشبوه؛ فمنذ تأسيسها العام 1901 حتى اليوم، لعبت أدوارا خطيرة.. فقد أدارت مشروع مانهاتن لتصنيع القنبلتين الذريتين اللتين أطلقتا على هيروشيما وناغازاكي، كما أنتجت المبيد الكيميائي الخطير والمسمى "العامل البرتقالي"، الذي استخدم ضد الفيتناميين مسبباً أكثر من نصف مليون قتيل ومشوّه، وهي نفس الشركة التي وردت للجيش الإسرائيلي "الفسفور الأبيض" الذي قتل به مئات الفلسطينيين في غزة..
وما بين تصنيع مبيدات الأعشاب وإنتاج البذور المعدلة جينيا، تختص "مونسانتو" بكل ما هو كيميائي ومسرطن؛ من الديوكسين، إلى DDT، وحليب البقر المحتوي على الهرمون rBGH، إلى الإسبرتيم المحلى، والكلور ثنائي الفينيل.. وكل ما يحقق لها أرباحاً خيالية، حتى لو كان على حساب صحة الناس وأمنهم الغذائي..
في السنوات الأخيرة نُظمت احتجاجات واسعة ضد الشركة في أكثر من 50 بلدا، ولكن يبدو أن الشركة تتمتع بنفوذ اقتصادي وتشريعي وإعلامي قوي، حتى أن هيئة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) إنحازت إلى جانب "مونسانتو" بشكل مثير للجدل؛ فلم تطالبها بعملية تصنيف المنتجات المعدلة وراثياً في السوق؛ لذلك فشلت الحملات الشعبية المطالبة بوضع ملصقات تعريفية على المنتجات الغذائية المعدلة وراثيا، كما نجحت "مونسانتو" بتمرير ما يسمى (قانون حماية مونسانتو) الذي يمنحها حصانة قانونية، إذ أصبح من الصعب مقاضاتها حتى لو ثبت أن منتجاتها تسبب أضرارا بيئية وصحية. لكن أستراليا ودولا أوروبية عديدة، قامت بوضع بند وقائي يحظر استخدام وبيع المنتجات المعدلة وراثياً على أراضيها.
هذه الشركة افتتحت مؤخراً فرعاً لها في الأردن، وأقامت محطة تجارب لتكون المقر الرئيس المسؤول عن الشرق الأوسط، ويعتقد البعض أنها نقلت نشاطها إلى الشرق الأوسط وإفريقيا لأن القوانين والأنظمة فيها ضعيفة، وأسواقها آخذة في التوسع، خصوصا في منطقة الخليج.
لكن خطورة الشركة لا تكمن في نشر الأغذية المعدلة وراثيا؛ بل تكمن في خطتها للهيمنة والسيطرة الكاملة على الإمدادات الغذائية في العالم بأكمله من خلال التكنولوجيا الحيوية الصناعية، ومن البديهي أن التحكم في الغذاء يعني التحكم في العالم، لذا فإن مصدر القلق العالمي يكمن في عملية احتكار الزراعة والإنتاج الغذائي، فعندما يعتمد العالم بأسره على مصدر واحد للغذاء يصبح أمره مرهونا بيد هذا المصدر.
قبل سنوات بعيدة، أنتجت الشركة مبيد أعشاب اسمه Roundup، ولاقى هذا المنتج رواجا كبيرا بين أوساط المزارعين، وبعد مدة بدأت الأعشاب الضارة بالمحاصيل باكتساب مقاومة ضد المبيد، ما اضطر المزارعين إلى مضاعفة تراكيز المبيد المستخدم كل مرة، ما تسبب بتدهور التربة الزراعية، فأتت الشركة بفكرة زراعة بذور معدلة جينيا تقاوم مبيد Roundup، وهكذا وجد المزارعون أنفسهم مجبرين على شراء بذور الشركة... في الهند مثلا وعدت الشركة المزارعين الهنود بالحصاد الكبير والأرباح الخيالية إذا قاموا باستبدال البذور التقليدية الطبيعية بالبذور المعدلة وراثياً. ولكن بعد فشل محاصيلهم أكثر من مرة أعلن أكثر من مائة ألف مزارع هندي إفلاسهم.
وما أن احتلت أميركا العراق حتى أوكل "بول بريمر" مصير القطاع الزراعي العراقي إلى شركة "مونسانتو" ضمن ما سمي إعادة إعمار العراق.. بعدها سنوات قليلة بدأت مشاكل الزراعة العراقية بالظهور، وأبرزها بذور انتحارية تصلح لموسم واحد فقط.. وفي ذات السياق، في العام 2010 بدأت أميركا تروج لبرامج دعم الزراعة في أفريقيا من خلال الضغط باتجاه خصخصة القطاع الزراعي وإدخال تكنولوجيا الأغذية المعدلة وراثيا بحجة محاربة الجوع.
وهكذا دخلت "مونسانتو" إلى أفريقيا بكذبة أميركية كبيرة اسمها محاربة الجوع، متجاهلة حقيقة أن الجوع سببه الفقر والسياسات الإمبريالية.
سابقا كان المزارع يُبقي على جزءٍ من محصوله كبذار لإعادة زراعتها في الموسم التالي، حالياً، وفق سياسة الاحتكار الجديدة لن يكون ذلك ممكنا؛ فالتكتيك المتبع حاليا للاستحواذ على الإنتاج الزراعي العالمي هو إنتاج بذور عقيمة، أو خالية من البذور، وبالتالي سيكون المزارع في كل موسم مجبرا على شراء هذه البذور من الشركات المحتكرة لها، وتستفيد الشركات الاحتكارية من قوانين حماية الملكية الفكرية وحقوق براءة الاختراع، ومن الاتفاقيات الدولية التي تضمن ذلك، والدول الموقعة عليها مجبرة على مراقبة المزارعين والتأكد من عدم استخدامهم للبذور في إعادة الزراعة.
وتلك هي سياسة "مونسانتو" للهيمنة على البذور أولا، كمقدمة للسيطرة على الإنتاج الغذائي؛ فهي حاليا تمتلك 23% من سوق البذور العالمية، ومسؤولة عن أكثر من 90% من جميع المحاصيل المعدلة وراثيا التي تتم زراعتها في العالم، ولدى الشركة محطات تجارب في 68 دولة.
ووفقا لأحدث الأرقام الصادرة في التقرير السنوي للعام 2015، يعمل لدى "مونسانتو" 22500 موظف، ويبلغ إجمالي إيراداتها نحو 15 مليار دولار، في حين بلغت أرباحها السنوية الصافية 2.33 مليار دولار، وفي العام الماضي 2016، دفعت شركة "باير" الألمانية مبلغ 66 مليار دولار في صفقة اندماج مع شركة "مونسانتو".
لا فرق إذا عملت الشركة تحت اسم "مونسانتو" أم "باير" أم غيرها.. فهي شركات عملاقة متعددة الجنسية عابرة للقارات، يملكها رأس المال الاحتكاري العالمي، المتوحش، الذي لا همَّ له سوى جني المزيد من الأرباح..
أبو ردينة: مستقبل المنطقة بأسرها مرتبط بحل القضية الفلسطينية
29 سبتمبر 2024