هل وصلت دورة الكفاح الفلسطيني لصفر كبير؟ لا داعي لأن نخدع أنفسنا بالشعارات أمام واقع يتجسد أمامنا من ابتلاع للضفة الغربية ودفع غزة نحو الانفصال وإدخالها في تجربة هي الأصعب لتنتهي منزوعة الإرادة الوطنية؛ لأن سقف مواطنيها الذين أنتجوا كل هذا الزخم من الفصائل والنضال على امتداد العقود الماضية من القوى الثورية التي انطلقت منها، "فتح" و"حماس" و"الجهاد"، وكان سقفهم فلسطين التاريخية والقدس وعودة اللاجئين انحدر إلى: ساعة كهرباء، وحركة معبر، وسرير مستشفى، وحقنة سرطان.
عندما نقول: "صفر كبير" نتحدث عن تواضع الإنجاز أمام هذا التاريخ الطويل الدامي في كل العواصم، في الشتات وفي الداخل، وحروب روت كل الأراضي العربية بالدم، آخرها في الوطن.
ففي العقدين الماضيين انتقل كل الثقل الفلسطيني للداخل ولم يتوقف الدم عن النزيف حتى اللحظة، وعندما نسأل الفصائل والقوى عن الإنجاز يحدثوننا عن الشهداء والثمن، وهنا تبدو الهوة التي تتسع بين فداحة الثمن وضآلة الإنجاز مدعاة للسؤال، وتجعل من حقنا أن نحاكم التجربة، وأن نسأل من أدار هذه التجربة بكل هذا الإخفاق حتى نجد أنفسنا الآن أمام هذا الواقع الذي صفعنا جميعاً وهوى بنا من يوتوبيا الحلم نحو قسوة الحقيقة؟
وكما أن الشمس لا يمكن تغطيتها بغربال، فالحقيقة لا يمكن تغطيتها بالشعارات، فقد كانت تلك ضرورة في رحلة الصعود نحو الحلم لاستدعاء القوى البشرية والشعب نحو التحرير والاستعداد للتضحية، لكن بعد احتكار الفعل وتمركزه في يد نخب معينة سواء نخبة سياسية أو نخبة عسكرية في مكان آخر والاستغناء عن دور الجماهير تنكشف الشعارات، بل تتحول إلى لائحة اتهام للفصائل والمؤسسات القائمة ومادة إدانة لها.
الشعوب الحية تحاكم أحزابها وتحاسبهم على كل كلمة وحركة وتصريح وإخفاق، الشعوب الحية لا يتم استغفالها ولا يتم خداعها بسهولة مثلما لا يتم الاستخفاف بوعيها، لذا فإن المسؤولين لديها تتم محاسبتهم في كل ما يقولونه، ولذا لا يلقون كلاماً في الهواء بل ينشغلون بتحقيق إنجازات على الأرض، وإذا لم يشعر المواطن بتغيير للأمام في حياته يدفع المسؤول والحزب الثمن من مستقبلهم السياسي وليس الناس.
المعادلة لدينا مقلوبة. نحن بلا شيء، والقوى مشغولة بصراعاتها التي لا تنتهي، محتكرة كل الامتيازات في ذروة المعركة بينها، وهي لا تدفع أي شيء، بل إن المواطن هو من يدفع الثمن، بل تجد هذه القوى من المريدين والمؤيدين ممن يضعون أنفسهم حطب المعركة، فيصفقون ليل نهار لدمهم المسال ومعاناتهم الدائمة، كما العصور القديمة التي كانت تموت فيها الشعوب من أجل رفاهية ملوكها ونزواتهم.
هناك خطأ ما في وعينا إذا ما حاكمنا التجربة في علاقتنا بسياسيينا وفي علاقتهم بنا، صحيح أنهم واجهوا عدواً على درجة كبيرة من الشراسة والدهاء يمتلك من الإمكانيات ما لا تملكه دول مجتمعة، مدججاً بالسلاح والمال والدعم الغربي، وصحيح أن إمكانياتنا متواضعة ولكن ما يحدث لنا من مآس بات واضحاً للجميع أن مستوى إدارة السياسة الفلسطينية ليست بريئة تماماً من هذا التعثر الذي أصابنا .. لأن هذا الانقسام الشاهد علينا والذي أدى إلى انهيار كل شيء لدينا وقضى على حلمنا بالدولة المستقلة هو من صنع أيدينا، صحيح أن الإسرائيلي هو الذي مهد وربما أدار هذا الانقسام ولكن الحقيقة المتجسدة أن الفعل كان فلسطينياً بامتياز، وكان السلاح فلسطينياً بامتياز، والشعار والتعبئة والتحريض كانت أدوات فلسطينية. هذا ما يقوله الحاضر وهذا ما سيكتبه التاريخ.
إن المطروح في السياسة الفلسطينية العابثة هو نصف توافق حول غزة، وكأن غزة هي رأس المشروع وبالتأكيد من دفعنا نحو هذا السيناريو منذ الانقسام ومشاركة قوى ودول تؤسس في غزة بنية ومشاريع، كان يعرف ماذا يريد أمام صمتنا وتواطئنا جميعاً ومنذ سنوات كان يراد لغزة أن تكون مسرح الفعل الفلسطيني من حصار وحروب ومآس إنسانية وحريق بالشموع، كان يراد لغزة أن تخطف وهج الكاميرا والإعلام وخلفها أساطيل عربية إعلامية كبرى وتحت هذا الصخب كان يتم سرقة الضفة الغربية والقدس.
إنها لعبة الذكي أمام الساذج الذي انجر إلى حيث يريد الأول، بل وأصبح دون أن يدري جزءاً من مشروعه وسط شعار الصراع على السلطة المجردة من أي سلطة، والتي تحتاج إلى إذن الإسرائيلي للحركة، وأعجز من التحكم بأنبوبة عاز أو أقل ربما إذا ما قرر الإسرائيلي.
كان الإسرائيلي يمارس دهاءه تجاهنا ويتعامل معنا كمجموعة من البدائيين العطشى للسلطة لا أكثر، الجائعين للامتيازات على حساب الأوطان والوحدة وعلى حساب كل شيء، والحقيقة التي أمامنا أننا لم نكن أكثر من ذلك، وهذا ما جعل مشروعه يتحقق ويسير على الأرض، لنكتشف أننا أمام صدمة جعلتنا أكثر عجزاً.
حذرنا من الانقسام وكتبنا أنه سيطيح بنا وبمشروعنا وقلنا مراراً: إن الانقسام سيقود إلى الانفصال وإنه في غزة يتم بناء مؤسسات مستقلة وكتبنا أن إجراءات "حماس" وإجراءات السلطة ومساعدات قطر تقود إلى الفصل وتكتب السطر الأخير في المشروع الذي كان ولا يزال حلماً إسرائيلياً حولناه إلى احتمال ثم حقيقة، فما الذي حدث وكيف حدث؟ لا أحد يدعي البراءة من السياسيين والكتاب وإلا لا يصلح لممارسة السياسة، ويبدو أن النتيجة تستدعي إعادة النظر بصلاحية كل السياسيين الذين كانوا شهوداً على هذه المرحلة.
لكن، كل هذا يمكن فرملته بضربة واحدة ما زالت ممكنة، فلا نصدق أن الفلسطينيين أعداء إلى هذه الدرجة، وأن الصراع على السلطة على هذه الدرجة من الأهمية، وأن أولويته تعلو على أولوية الصراع مع إسرائيل .. كل هذا لا يصدق وما زال بإمكان الفلسطينيين كعادتهم قلب الطاولة، وقد فاجؤوا العالم سابقاً بكثير من المعجزات، وبإمكانهم أن يستلوا واحدة جديدة .. فلا شيء يستحق الصراع بينهم أمام الزحف اليهودي في القدس؛ لأن بيتاً واحداً في القدس أهم من كل قطاع غزة.
إذا لم يتمكنوا من إنهاء الانقسام، فربما الانتخابات والعودة للشعب تعيد فك وتركيب نظام سياسي قادر على إنهائه وقد توقفت العقدة عند اللجنة الإدارية، وفي هذا استخفاف كبير في السياسة بالمواطن وبالشعب .. دعونا نتأمل "نكتة اللجنة الإدارية"، فـ"حماس" تستطيع حل اللجنة وإدارة غزة دون الإعلان عن لجنة، والرئيس يستطيع الاتفاق على إجراء الانتخابات حتى لو بقيت اللجنة، فبعد الانتخابات قد يتغير كل شيء، أما أن يقف الأمر عند هذا الشيء الشكلي فلا أحد يصدق .. ولكن ما نصدقه هو أن كل الذين تحملوا وزر المرحلة أعطونا صفراً كبيراً .. ولا عزاء للشعوب الميتة..!