(1) ادمان حتى الثمالة
تصدمني كثيرا التفاصيل الهائلة –والمرهقة- التي تغرق فيها الحالة الفلسطينية عموما وغزة على وجه الخصوص!!
انها كالجراد المنتشر!
لقد أدمنا عليها, لدرجة أننا لا نستطيع الفكاك منها ,بل لا نعرف النوم قبل ان نرتوي منها الى درجة الثمالة !!
تفاصيل (صغيرة) تملأ علينا حياتنا واحاديثنا ومقالاتنا وتحليلاتنا , حتى أضحت كالسجن الذي فرض علينا ان نعيش فيه كمحكوم عليه بالمؤبد.
انها تفاصيل متطايرة في الهواء , صغيرة,...مبعثرة ....مزعجة, معكرة للمزاج , وبعضها يصل الى درجة التفاهة ! لقد ملأت علينا الفضاء وغلقت علينا الابواب, فلا نرى غيرها ,بل انها حجبت عنا القضايا الكبيرة التي عشنا وقاتلنا وقاومنا من اجلها !!
لقد تحولت الى ملهاة يومية نمضغها صباح مساء.. نعيد لوكها ..ثم عجنها ..ثم طبخها ..ثم بلها بالماء.. ثم بلعها..ثم اجترارها!!
صحيح انه لا ينبغي تجاهلها لأهميتها وتماسها المباشر مع حياة المواطنين, لكن ان تستحوذ على كل تفكيرنا ومشاغلنا وتدفعنا لإزاحة او تجاهل القضايا الكبرى والاستراتيجية , فهذا هو البلاء العظيم.
(2) فاكهة النقاشات واللقاءات
ما أكثرها وما أقل بركتها وما أشد صداعها !!
نمسي ونصبح ونحن نتحدث عن الكهرباء وأزمتها ..ثم عن ساعات التشغيل والقطع , نتبادل الاتهامات عن ايراداتها ومدخولاتها, وتصبح ضريبة (البلو) معروفة لأطفال الشوارع أكثر من أزقة القدس!
كثرت فيها التدخلات والمبادرات من الفصائل والقوى والمستقلين والمهنيين, حتى اصبحت القضية الوطنية المتصدرة للاجتماعات واللقاءات(الكبرى), بل تحولت الى ساحة صراع وكسر عظم بين غزة وسلطة رام الله.!!
وقبلها كانت-ولا زالت- قصة المعبر التي اخترطت من لحمنا الكثير وسرقت منا الكثير من الندوات واللقاءات واغرقوها بالمبادرات والخيارات !
يشدنا الحديث عن الوقود المصري وكمياته وتوزيعه واسعاره, لدرجة ان الصحفيين حشدوا أنفسهم ونصبوا كاميراتهم واستنفروا لالتقاط صور الشاحنات المصرية وكأن جحافل الفاتحين دخلت علينا!!.
الاسمنت(المبجل) كان له نصيب وقسط عظيم في سجالاتنا..
والسجائر المهرب والانفاق احتلت مواقع الصدارة في خلافاتنا..
اللجنة الادارية احتلت حيزا كبيرا في الجدل والنقاش والخلاف السياسي, وتحولت الى (عقدة العقد) لابو مازن ومربط الفرس في أي حل..
هناك من (كبر) الموضوع عند ابو مازن وصورها على انها (امبراطورية الشر) التي قصمت ظهر المصالحة, بينما اعتبرتها حماس (ورقة ضغط) ناجحة.
ابو مازن جرد سيفه وبدأ في استعراض عضلاته في فرض العقوبات, الواحدة تلو الاخرى, وكل عقوبة تأخذ قسطها الكبير من النقاش والجدل والتصريحات والردود والردود المضادة , والتدخلات الفصائلية والمجتمعية للتوسط وطرح المبادرات !!
لدرجة ان كاتبا كبيرا كتب عن "مسارات الوضع الفلسطيني بعد قطع الرواتب" !! وكتب اخر عن "التحولات في النظام السياسي بعد مصالحة حماس ودحلان !! وهناك من اعتقد ان المعادلة السياسية الفلسطينية ستنقلب بعد دخول السولار المصري الى قطاع غزة!!
أي انحراف خطير في البوصلة والاتجاه !!
قصة دحلان اقتحمت صالوناتنا السياسية, وغزت مقاعد الثرثرة , وتبوأت صدر الاخبار, وفتحت شهيتنا لابتداع السيناريوهات والتوقعات الجامحة !!
الحديث عن الصيف الساخن واحتمالات الحرب على غزة تصيب المحللين بشيء من (الحكة) والمتعة والتلذذ في تسخين حرارة الجو السياسي!
خلافات حماس وفتح والتصريحات المتبادلة- التي اعتدنا عليها- اصبحت وجبة يومية دسمة نتعاطاها مثل العقاقير المخدرة حتى اصابتنا بالدوار والحمى وفقدان الاتزان الجسدي والعقلي.
وغير ذلك من مئات التفاصيل المبعثرة في الازقة وقارعة الطرق والمقاهي والشاليهات والسيارات, وحتى في مقرات الفصائل , ومباني الحكومة والوزارات.
انها (فاكهة) المجالس, و(هيروين) النقاشات والورشات و(الادرينالين) الذي يستفز الجهاز العصبي !
(3) وجع الرؤوس
أرعبونا من (صفقة القرن), ومن (الفوضى الخلاقة ) ومن (الشرق الاوسط الجديد ) , ومن (مخطط غيور ايلاند ) الجهنمي , ومن صراع سني شيعي , ومن سيطرة داعش على ارض العرب..
وصدعوا عقولنا بمؤامرة(دويلة غزة) من خلال الانتقال من الانقسام الى الانفصال ..
واشغلونا ب"المخطط الجهنمي لإقامة دولة للفلسطينيين في سيناء !!
وأنهكونا بالحديث عن صفقات "ترامب" ومخططاته لاعادة تركيب العالم العربي من جديد !
(دوخونا) في الانتقال والقفز بين لعبة المحاور العربية المتغيرة والمتناقضة !
وكأن هناك من يقف وراء ماكنة (ذكية) تخرج لنا كل يوم (بعبع) جديدا نتلهى ونتسلى به, ونتذاكى به في تحليلاتنا وتقديراتنا , بينما في الواقع يصنعون شيئا اخر..شيئا يصدمنا في حدوثه وتوقيته!!
(عيشونا) في حالة من فقدان الجاذبية , وفقدان الاحساس بالذات , وفقدان الكرامة !
بدونا كريشة في مهب العواصف المجنونة التي تجتاح المنطقة.
نتفرج على شريط المشاهد والتغيرات والانعطافات الخطيرة – ببلاهة - ونحن لا نملك الا الصمت او التعليقات السطحية.
(4) هناك من فعل !!
نحن نتكلم كثيرا ..نحلل كثيرا لكنا نفعل قليلا, بينما اسرائيل- ومن معها وخلفها- تتكلم قليلا. .تخطط كثيرا..تفعل كثيرا , وتدمر كثيرا!!
لكي تصدق, تعال انظر الى الخارطة/ الحالة العربية وما حدث فيها من انهيار مريع تنهار ومن تحالفاتها واولوياتها ؟
انظر الى الحالة الفلسطينية التي وصلت الى حالة غير مسبوقة من الانقسام والصراع والضعف وغياب عن الاجندة العربية والدولية ؟
في مقابل عومنا على (شبر) التفاصيل الصغيرة ,هناك من يصنعون احداثا جسيمة وخطرة قد لا تخطر على بالنا ولا في مخيلتنا.
هناك من يضعون الخرائط , الانظمة , الطوائف , مفاتيح القرارات, على الطاولات , في الغرف المغلقة في مباني المخابرات ومراكز الابحاث , ويبدأون في اعادة الفك والتركيب : هذه مساحات مظللة لصراع طائفي , وتلك مساحات جاهزة للتمرد, هنا يمكن تشكيل مجموعات مسلحة.. هنا مناطق قابلة للتقسيم , وباللون الاحمر انظمة يجب ان تسقط , وباللون الاخضر شخصيات يجب ان تدفع الى كرسي الحكم !!
(تذكروا كيف قسموا العالم العربي –جغرافيا وسكانا وانظمة- خلال ايام في اتفاقية سايكس بيكو , وعلى طاولة تناولوا فيها القهوة والحلويات) .
ومن ثم يجندون الاموال والمعلومات والاستخبارات والعملاء لبدء عمليات التغيير الكبرى .
هناك من دمر العراق وقسمه الى دويلات وطوائف متصارعة بعد سنوات القوة والغنى .
وهناك من دمر سوريا(عروس الشام) واغرقها بالدم والجثث والمشردين, وادخل اليها قوات اجنبية رسمت وحكمت , وخضعت اراضيها للتقسيم والتوزيع المجاني .
وهناك من اشعل حربا ضروسا في اليمن وحولها الى خرابة وارض قاحلة ليس فيها الا الموت والدم.
وهناك من جعل من ليبيا ساحة صراع-وتقسيم- استنزفت مقدراتها وجيشها واضاعت هيبة ثورتها العظيمة!!
هناك اقنع انظمة عربية ان تغير بوصلتها –وتخلع جلدها- وان تفتح جسورها مع اسرائيل وان تصطف ضد شعوبها وان تلتحق بتحالفات وهمية لمحاربة الارهاب .
هناك من ضحكوا علينا وزرعوا فينا جماعات تكفيرية ارهابية في عقر دارنا ثم اقنعونا بان نحاربهم وان نجند امكانياتنا وطاقتنا وان ندفع من خزائننا ومقدراتنا لحرب لا تنتهي.
هناك من خدعونا وفجروا الكنائس وجندوا الانتحاريين ووضعوا العبوات الناسفة في مطار اسطنبول ومقاهي باريس وشوارع بروكسيل ولندن ثم اقنعوا الاغبياء والجهلة بان من يقف وراء هذه الهجمات اسلاميون متشددون ينبغي ملاحقتهم وكسر عظمهم.
يبقى السؤال : من هم هؤلاء العباقرة ذوي القدرات العالية والاستثنائية القادرون على استباحة كل شيء في عالمنا ؟؟
بتفكير بسيط قائم على قاعدة :(البعرة تدل على البعير) , فاننا نجزم بان (أعداءنا), وهم معروفون,هم اصحاب المصلحة في تدمير المنطقة واغراقها بالفتن , وليس ادل على ذلك من بقاء اسرائيل سبعين عاما من حيث القوة والتصنيع والتفوق العسكري والاقتصادي والدعم الغربي اللامحدود والتمدد السري والعلني الى العواصم العربية !
(5) لكي نهرب من (متلازمة) التفاصيل
ليس المطلوب التخلص من التفاصيل الصغيرة ,لكن التخفف منها ووضعها في موضعها المناسب.
يجب الا نغرق فيها لان قاعها عميق لا يمكن الخروج منه.
لان الوطن كبير فانه يحتاج الى عقول كبيرة ورجال (كبار) يفكرون وينشغلون في القضايا الكبيرة.
نريد من يشغلنا كل يوم وساعة في كيفية اعادة صياغة مشروعنا الوطني(الذي ضاع وتاه) ..كيف نرسم خطة ناجحة للتحرير ..كيف نبني وحدة حقيقية غير مزيفة ولا هامشية ..كيف نجتث بذور العنف والكراهية من داخلنا ونبني بدلا منها جسور الثقة والحوار والتفاهم.
نريد من يعلمنا ويرشدنا الى اخطائنا وعثراتنا خلال مسيرتنا الوطنية حتى نتعلم منها ..
نريد من يفهمنا نقاط القوة والضعف في اسرائيل لكي ننجح في افشال مخططاتها ..
نريد من يرسم لنا سياسة ذكية ومقاومة رشيدة ومصالحة حقيقية ..
نريد من يدق ابواب العواصم ب(شطارة) وذكاء لتجنيدها لصالح القضية ..
هكذا نصنع الامل ونحرر الوطني ونبني المستقبل بتفكيرنا الكبير .
اما التفاصيل الصغيرة فانها تبقى للصغار ملهاة تسرق منهم اعمارهم, ثم يجدون انفسهم كباسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه .
فاعتبروا يا اولي الابصار !!