{هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}
كيف ومتى، جاء الإنسان إلى الأرض؟ هل هبط عليها من السماء؟ أم نبت منها؟ تقدم الأديان والعلوم إجابات مختلفة عن هذه التساؤلات.. التوراة تقول إن عمر الأرض (بما في ذلك عمر الإنسان) فقط ستة آلاف سنة.
بينما يقول العلماء إن عمر الأرض 4.7 مليون عام.. وإن الإنسان آخر ما جاء في سلسلة تطور الكائنات الحية.. بعيداً عن الدور الوظيفي للإنسان، ورسالته على الأرض، وبالتركيز على قصة أصوله البيولوجية، تعالوا لنذهب في رحلة إلى ذلك الزمن السحيق، لنتابع رحلة أسلافنا الطويلة والمضنية، من بداياتها المشوقة والغامضة.
إذا كان للإنسان أن يتباهى بأنه سيد الأرض بلا منازع، فعليه أن يتذكر أن الديناصورات كانت سيدة الأرض من قبله، وأنها ظلت محتفظة بسيادتها المطلقة مدة 130 مليون عام، إلى أن سقط عليها نيزك هائل أدى إلى فنائها، حيث نجم عنه غيوم كثيفة من الغبار حجبت الشمس لمئات السنين، وتسببت بعتمة الكوكب، ودخوله عصور البرد القارس، ولم ينج من هول الانفجار سوى عدد قليل جداً من الكائنات المتكيفة، التي حفرت تحت الأرض أو احتمت بالكهوف، وهناك تناسلت من جديد لتعيد إنتاج الحياة بعد خرابها.
إذْ اكتسبت تلك الكائنات المختبئة ميزة جديدة لكي تؤمّن بقاء نسلها، وهي حمل البيضة في داخلها، لتعطيها أمانا أكثر في بيئة قاسية معادية.
وبينما كانت آخر الديناصورات تودع الكوكب، قبل 65 مليون سنة، فاسحةً المجال لتكاثر الكائنات الجديدة، عبر عملية طويلة جداً وبالغة التعقيد من التطور، انتهت بظهور الرئيسيات العليا، والتي من نسلها جاء الإنسان.
لا أحد يعلم على وجه اليقين متى بالتحديد ظهر أول إنسان، فتحديد بدايات الشيء عملية صعبة، فالبدايات تكون غير واضحة، لأن التغيرات التي تؤثر عليها تحدث دائما عبر عملية طويلة، لذلك لا نستطيع تحديد تلك النقطة التي يسعنا عندها القول: «تلك هي نقطة البداية بالضبط». كما هي الحال في صعوبة تحديد بداية للكون، أو بداية أصل الحياة، ولكنا نستطيع تحديد حقب زمنية معينة شهدت بدايات التغيرات على الرئيسيات العليا التي أفضت لظهور الإنسان.
يقدم لنا علم الأحفوريات أدلة دامغة على نظريات كانت تثير الشك، ويجيب عن الكثير من الأسئلة التي طالما حيرت العلماء؛ فمعظم الكائنات الحية التي عاشت في الماضي تحللت أجسادها، أو كانت عشاءً لحيوانات أخرى، لكن بعضها حالفه الحظ فطُمر فجأة تحت طبقات من الطين نتجت عن انجراف أرضي فجائي، أو غطاها الجليد، فتحولت إلى أحفورة.
تشير الأحفوريات إلى أنه قبل 35 مليون عام ظهر أوائل الأسلاف المشتركين للإنسان وللقردة، أي الرئيسيات العليا، التي انعزلت في إفريقية، وقبل نحو سبعة ملايين سنة طرأ حادث جيولوجي في إفريقية، أدى إلى انخساف وادي «ريفت»، وصعود بعض أطرافه شيئا فشيئا لتشكل جدارا كبيرا، شق هذا الانهدام الهائل إفريقيا كلها، وإثر ذلك انقلب المناخ، فاستمرت الأمطار تهطل في غرب الشق، وراحت تتناقص في الشرق، والذين ظلوا غرب الشق تابعوا حياتهم الشجرية، أما الذين وجدوا أنفسهم معزولين في الشرق فواجهوا السافانا والسهول، وقد أمكن لهذا التقسيم البيئي أن يحرّض نوعين مختلفين من التطور؛ فأجيال الغرب انتهت بالقردة والغوريلا الحاليين، أما أجيال الشرق فانتهت بالإنسان، أي أن المسألة برمتها عبارة عن تاريخ التباعد.
وقد عثرت البعثات العلمية في شرق أفريقيا على 2000 عظم بشري وشبه بشري، تعود إلى نحو 3 ملايين عام. ولعل أشهرها وأكملها عظام الجدة «لوسي»، وهي أنثى شابة عاشت قبل نحو 3 ملايين عام، ومن خلال هذه الأحفوريات جزم العلماء أن الإنسان ولد بداية في شرق أفريقيا، تلك المنطقة التي كانت تنجو على الدوام من عصور الجليد، وبالتالي فإن أفريقيا هي مهد الإنسانية وموطنها الأول.
وما يؤكد هذه النظرية أنه لم يتم العثور في منطقة غرب أفريقيا على أي عظام لإنسان أو أشباه الإنسان تعود لتلك الحقب القديمة، ولم يعثر أيضا على عظام لقرود أو غوريلا في شرق أفريقيا تعود لنفس الفترة.
وقد أجبرت بيئة الجفاف وتقلب المناخ في شرق أفريقيا تلك الرئيسيات العليا أن تنتصب واقفة، وأن تبحث عن طعامها وتعمل على تنويعه، وأن تستخدم أياديها، وهذا كله ترافق مع تطور تدريجي في حجم المخ وشكل العظام، ولكن هذا التطور لم يأخذ مسارا وحيدا، فقد شهدت إفريقيا خلال السبعة ملايين سنة التالية ظهور العديد من الرئيسيات العليا التي تشبه الإنسان.
وعند النقطة التي تفرعت فيها فصيلة الكائنات الشبيهة بالإنسان عن غيرها من الفصائل في رتبة الثدييات، لم يعد أمامها غير أحد احتمالين: إما أن تصبح بشرية أو أنها تعجز عن البقاء.
وفي واقع الأمر فإنَّ الصنف الوحيد من فصيلة الكائنات الشبيهة بالإنسان الذي استمر في البقاء هو جنس الإنسان (هومو سابينس)، والنوع الوحيد من جنس الإنسان الذي استمر في الوجود هو نوع الإنسان العاقل.
في المقال القادم، سنتابع رحلة انتشار الإنسان في ربوع الأرض، وكيف بنى حضارته..