ليس للبلدة القديمة؛ رام الله ـ التحتا، ما للقلب الحجري المعتَّق للقدس العتيقة المسوّرة، أو للخليل ونابلس، لكن بعض ما في العاصمة القديمة لا نجده في ما صار العاصمة الإدارية للسلطة، التي "تنمو على عجل"!
أربعة شوارع تحدّها، متعاكسة في حركة سير السيارات شمال ـ جنوب، لكن حركة مزدوجة للسيارات والمشاة تتركز في شريانين: شارع السهل، وشارع البلدية، الذي كان شارع "الحسبة القديمة".
عندما "ينام" شارع ركب ـ الشارع الرئيسي يوم الجمعة، يبقى شارع السهل "صاحياً" وطيلة أيام الأسبوع. في الصباحات كلها، وصباح الجمعة خاصة، يصطف الناس بالدور على مطاعم الحمص والفول والفلافل؛ وفي المساءات تراهم يلتمُّون حول طاولات الرصيف لمطاعم المشاوي، ولمن يشاء سندويشات "السناك" الأوروبية أن يجد ضالّته.
ثلاثة أفران توفر لك رغيفك على أنواعه: الكماج، والعربي.. وأيضاً كعكة القدس بنكهة القدس تقريباً على أشكالها الثلاثة من فرن "على الحطب" ساخنة في الصباح وساخنة في الليل، أيضاً، كما في مخبز "عين العرب" أوّل شارع السهل، الذي يقدّم البيض المشوي، وعصائر الفاكهة الطازجة، وسندويشات "السناك" الغربية.
رصيف عريض للشارع، يمتلئ في ليالي الصيف بخاصة بالكراسي والطاولات، كما ليس في بقية أرصفة شوارع المدينة كثيرة المطاعم والمقاهي.
بعد العاشرة مساءً في حرِّ الصيف، قد لا تجد كرسياً شاغراً ولا طاولة على رصيف في مقهى الانشراح القديم، الذي تأسّس عام 1945 للسَمَرْ والتداول، ولألعاب الورق وطاولة الزهر والأراغيل، ومشاريب وعصائر، أيضاً، والأسعار متهاودة، أيضاً. ليس للانشراح ما ينافسه في المقاهي.
كثيرة هي المنازل الجميلة في رام الله الجميلة، لكن لعلّ أجملها هو مبنى قديم نسبياً لمطعم سناك شيلي ـ شيلي، بأضوائه، ومُعرَّشات نباتاته، وأبرزها دالية من العنب تتسلَّق من أرض الرصيف إلى الشرفة، وأخرى ياسمين.
في الشارع الموازي، شارع البلدية القديم، لم ينسحب تماماً من كونه شارع الحسبة القديم، حيث تتجاور حوانيت الخضار والفواكه، التي تجاورها دكاكين رام الله كما كانت للدكاكين اسمها ووظيفتها في بيع البضائع، مع مسحة هذه الـ"ميني ماركت" أحياناً.
لعلّ ما يميّز شارع البلدية هو ما لا تجده، ربما، في سائر رام الله كلها، أي "بسكيلاتي" خبير في تصليح الدرّاجات الهوائية. في الصباح يعمل في الظل على كرسيه في رصيف محلّه، وفي المساء يعمل على الرصيف المقابل، هذه السنة صار عمر البسكليت 200 سنة!
لو كنت من سكان هذه "داون - تاون" قد لا تحتاج ما ينقصك من محلات الخياطة، إلى محلات غسيل وكيّ الملابس، إلى محلات للأزياء والملابس والأحذية الراقية. هذه بلدة صغيرة في المدينة التي لا تكفّ ولا تتوقّف عن النمو والامتداد في أطرافها، وأحياناً في قلبها، أيضاً.
لا أعرف كم عدد سكان هذه "داون ـ تاون" التي تتجاور فيها الكنائس مع المساجد، لكن ملصقات على الجدران تقول، بالاسم والصورة، إن هناك 25 أسيراً من شباب ورجال رام الله ـ التحتا في السجون الإسرائيلية.. ومن حكم المؤبد ـ المؤبدات إلى أحكام متطاولة واعتقالات إدارية، وتبدو رام الله ـ التحتا شبه قلعة فتحاوية، وعند إطلاق سراح أسير أنهى محكوميته، تزدان شوارعها وأزقّتها برايات حركة "فتح" الصفراء وصور قادتها التاريخيين.
قلت إن المدينة القديمة فيها أربعة شوارع ـ شرايين متعاكسة حركة سير السيارات شمال ـ جنوب، لكن شارع السهل وشارع البلدية القديمة ملأى بحركة الناس طيلة أيام الأسبوع بمحلاتها ودكاكينها المفتوحة من الصباح الباكر إلى المساء المتأخِّر، لكن قلب هذا القلب هو زاروب صغير لا رصيف له، ولا أشجار على أرصفته بالتالي، لكنه مرصوف ببلاط صناعي، وفيه أعتق المباني الحجرية، أي أساس بيوت رام الله، وقامت البلدية، منذ سنوات، بترميمه، مع توسيعه ما أمكن لمرور السيارات، لكن مبنى قديما للاجتماع والتداول لسكان رام الله في المهجر لم يتم بعد تشطيبه.
في الزاروب ـ الشارع هذا، مقر لـ"كمنجاتي"، وورشة لتصليح وترميم الآلات الموسيقية على اختلافها، شرقية وغربية، وأبرز ما فيه هو ترميم وتجميل المقر الرئيسي لمؤسسة "تامر" للتعليم المجتمعي.
في احتفالية رام الله بمئوية بلديتها، قامت بإعادة بناء البنية التحتية والفوقية لمركز المدينة، وجمّلته، وزرعت الأشجار على أرصفته، وشمل هذا، ايضاً، تحديث البنية التحتية والفوقية لرام الله ـ التحتا أو "داون - تاون" وتشجير أرصفتها.
صار شارع السهل يجاري شارع ركب في التحديث الجميل، مع حفاظ أكبر على أصالته، بينما بقي شارع البلدية أكثر اقتراباً من طابع رام الله ـ التحتا، وفيه مركز محدّث لخدمات الجمهور ودفع الفواتير، وأيضاً ذلك الفرن الذي يعمل على مدار ساعات أيام الأسبوع، وتتوقف عنده سيارات ركاب قرى رام الله الغربية لشراء الخبز.
محظوظ أن تسكن رام الله، ومحظوظ أكثر إن كنت تسكن رام الله ـ التحتا، أو القديمة، أو "داون ـ تاون". أنا محظوظ جداً!